إلى صديقٍ فيلسوف
صديقي الفيلسوف: تحية وبعد:
ليس تحبّبا فقط أخاطبك بصفتك الفيلسوف، وإنما قناعةً مني، من دون حَجاجٍ كثير، بأنها صفةٌ يجوز أن يحوزها المشتغل بالفلسفة، ومن ينتج أفكارا ومعرفةً وسجالا في الفلسفة، وأنت في عقودٍ أربعة، لم تكن أكاديميا وأستاذا جامعيا للفلسفة فحسب، وإنما صاحب رؤى، ومواقف، وجدالاتٍ في الحقل الأكاديمي المعرفي المحض في الشأن الفلسفي. أما مناسبة رسالتي هذه، حيث يتعذّر أن نلتقي، فهو ما قرأتُه لك بشأن رفض الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، أخيرا، جائزة الشيخ زايد للكتاب، بعد قبوله ترشيحَه لها، وقد كتبتَ إن أكثر الذين تحدّثوا احتفالا بهذا من غير العارفين شيئا عن حياة الرجل النظرية والعلمية. وبذلك، ذهبت مقالتك، وفيها تفلسُفٌ ملحوظٌ (ليس مقنعا بالضرورة)، إلى نقد الذين سمّيتَ ما فعلوه "احتفالا عامّيا"، وأيضا إلى هابرماس نفسه، سيما لمّا كتبتً إنها "مزحةٌ سمجة"، من عالم اجتماع (المشهور أنه مفكّر وفيلسوف)، انتقاله من الجهل (بدولة الإمارات، كما يُفهم) إلى المعرفة، بعد مقال نُشر في جريدة (الصحيح أنها مجلة) ألمانية.
صديقي: توحي، أو تُضمر، (كما فهمت)، أن "شيئا ما" وراء تراجع هابرماس عن قبول الجائزة، أبعد من حكاية المقال في الدورية الألمانية، لكنك لا تصرّح به تماما، وإن ذكرتَ أن ثمّة حسابات ربح وخسارة، من دون أن تعيّنها، فما هي بالضبط أرباح الرجل مما فعل؟ وتكتُب إن ما سلكه يعود إلى انتمائه إلى "مركزية أوروبية، لا تنظر إلى معيار التقدّم التاريخي، إلا بوصفه الحقيقة المطلقة، دون النظر إلى تاريخية السيرورة الاجتماعية". بصراحة، أنت هنا لم تدلّل على "اتهام" هابرماس بهذا. .. أين وجدتَ هذا كله، وكيف وقعتَ عليه في موضوعتنا هذه تحديدا؟ ولأنك، صديقي، لست مثلنا، نحن العاملين في الإعلام والصحافة، نتقصّى في أي حادثةٍ وواقعةٍ، ونطارد تفاصيل تفاصيلها، سيما إذا ما أغوتنا بكتابة تعليق عليها أو تحليل عنها، آثرتَ بدلا من هذا أن تُسهب عن انتقال دولة الإمارات التي تقيم فيها (لا أظنّك تزعل من هذه الإشارة) من بنيةٍ قديمةٍ إلى أخرى جديدة، وجئتَ على "سرعة التحديث" في بناء المدن ومؤسّسات الدولة فيها، وكتبتَ أشياء أخرى عن الإمارات، من قبيل إن "روح المواطنة فيها تطابقت مع البنية الثقافية للفرد الحر". ومقصدُك من هذا كله (وغيره) أن تقول إن مشروع الحداثة الذي انخرطت فيه الإمارات، وتُنجز فيه، لا يعرفه هابرماس.
أنفقتَ، صديقي الفيلسوف، جهدا هنا ليس في موضعه، وذلك أنك افترضتَ أمرا ما في دماغ هابرماس جعله يرفض جائزة الشيخ زايد. ولكن، هل استجدّت عدم معرفته بدولة الإمارات و"البنية الثقافية للمواطن الحر" فيها بعد قبوله الجائزة؟ هذا أمرُ الرجل قبل موافقته وبعدها، وقبل عدوله عن الموافقة وبعده. ثمّة إلحاحٌ فيك، صديقي، على إبعاد فكرة مقال المجلة (هل تعمّدك عدم تسميتها، "ديرشبيغل"، ازدراءٌ لها، أم ماذا؟)، الذي جعل التسعيني هابرماس يصحّح ما أيقن أنه خطأ وقع فيه. وفي كل الحكاية، لا موضع أبدا للإمارات ومدنها وعمرانها ورحلتها "من البداوة والصيد والاستعمار البريطاني" (أظن أن مقادير باهظة من البداوة باقية فيها، وفي غير بلد عربي). الحكاية، من دون تطويل كلام، تتعلق أولا باسم معيّن (محمد بن راشد) ممن أعطوا جائزة الشيخ زايد للكتاب، الشخصية الثقافية، رأى مقال "دير شبيغل" أنه لا يليق بهابرماس أن يقترن به في سجل حائزي الجائزة (لأسبابٍ ساقها المقال)، وثانيا بما هي صورة الإمارات في موضوعة حقوق الإنسان حاليا.
أما أنه لا يحسُن بالفيلسوف أن يخضع لسلطةٍ غير سلطة ذاته، لسلطةٍ من خارجه، في قبول جائزةٍ أو رفضها، على ما ترى، فهذا قولٌ يزيح هابرماس من كينونته السابقة على مهمته فيلسوفا، وهي أنه فرد، يخطئ ويصيب ويراجع نفسه. ولا لزوم في الأساس لمعرفه نظريات هذا الفيلسوف وأفكاره. ببساطةٍ، لأنه ليس أيٌّ منها مطرح الخلاف هنا أبدا.. ثم ماذا عن سلطة الصحافة (نتحدّث عن ألمانيا)، لماذا تستهين بها؟ لقد أغفلتَ أن هابرماس استوضح عن الجائزة ومن أُعطيت لهم من صديقه مدير معرض فرانكفورت للكتاب. .. إنه يجهل الجائزة نفسَها (كما كثيرين غيره)، والراجح أن انتقالات الإمارات التي تحدّثت عنها، يا صديقي، ليست من مشاغله، ما يجعل رمي الرجل بمركزيةٍ أوروبيةٍ أو غير أوروبية تزيّدا. وإذا صحّ ما كتبَه أحد العارفين إن هابرماس، في خطاب قبوله الجائزة إلى القائمين عليها، أشاد بالإمارات، فإن ما سُقتَه عن هذا البلد يصير نافلا (أنصحُهم في أبوظبي بنشر نص الخطاب). وهنا، تعال نفترض، للمحاجَجة (وتفلسفا؟)، إن الجائزة من الكويت أو من تونس أو من الجزائر، ورَفضها هابرماس، هل كنا سنحتفل برفضه؟ لا، يا صديقي، كنا سنستنكر فعلَه. أما أنها الإمارات فأمرُها مختلفٌ، مختلفٌ جدا، يا صديقي، أقلّه بأعداد مظاليم أصحاب الرأي (والتغريدات) في سجونها .. ولأنه لم يكن في وسع مقالتك أن تأتي على هذا، لم يكن ثمّة داعٍ لأن تنكتب.