إعادة متجددة لدوستويفسكي

24 أكتوبر 2022
+ الخط -

يبدو أن الروائي الحائز جائزة نوبل للآداب (2003)، ج. م. كويتزي، يكنّ احتراماً خاصاً لدوستويفسكي، حين ألف كتاباً عنه أطلق عليه اسماً دالاً على مكانته "سيد بطرسبورغ"، وقد اختار زاوية جديدة وغريبة للكتابة عن الروائي الروسي العظيم.
كتب كثيرة عن دوستويفسكي، سواء عن حياته أو بوحي من أعماله. مما قرأت، رواية الأفغاني عتيق رحيمي "ملعون دوستويفسكي"، وكتب الألماني هولدرن "بناة العالم"، و"دوستويفسكي" للألماني ستيفان زفايغ، و"دوستويفسكي مقالات ومحاضرات" ترجمة الراحل إلياس حنا إلياس، ويتحدث مؤلفه، أندري جيد، عن حمّى الترجمات الفرنسية لروايات دوستويفسكي، وقد قرأها وفاضل بينها.
ذات زيارة قديمة قمتُ بها لموسكو، سمعت حديثاً عن الانتشار الواسع  لروايات دوستويفسكي، وأن ما بيع منها في أنحاء العالم يمكن أن يوازي مليارات الدولارات، وذلك فيما كان صاحب هذه الروائع يعاني معاناة كبيرة مع المال، لم يتخلص من الديون إلا في آخر سنة من حياته، بعد أن كتب رائعته "الأخوة كارامازوف"، وغادر بعدها دنيانا مطمئناً في عمر التاسعة والخمسين، وكان عطوفاً على عائلته وعائلة أخيه، حسب ما عبّرت عنه زوجته آنا في مذكّراتها.
وبالعودة الى كتاب "سيد بطرسبورغ" (ترجمة ربا زين الدين، دار ورد، دمشق، 2019)، فقد تبدّى مدى مجهود كويتزي في التفرّس بحياة دوستويفسكي وأعماله، بل إنك تشعر أن الروائي الجنوب أفريقي، ربما تعلم اللغة الروسية لهذا الهدف، حين تحوّل كتابه السردي هذا إلى ما يشبه الوثيقة. وربما لهذا السبب، لا يجد القارئ كلمة رواية على الغلاف، فقد أراد الكاتب أن  يكون أكثر صلة بالوثيقة الحية منه إلى الرواية المتخيلة. والرواية عن فترة قصيرة من حياة صاحب "الجريمة والعقاب"، ولكنها مفصلية، وهي وفاة ابنه بالتبنّي من زوجته الأولى الذي رحل عن 21 عاماً بطريقة غامضة، فقد سجّلت الشرطة أنه منتحر، ولكن آراء تذهب إلى أنه قتل، لأنه كان ينتمي إلى حركة معارضة في ذلك الوقت، تسمّى "جماعة نكاييف". وقد كان دوستويفسكي وقت وفاة ابن زوجته يعيش في ألمانيا، ومن هناك كان يراسل ربيبه أسبوعياً، وما إن انقطعت الرسائل، حتى أدرك أن مكروهاً أصابه، فجاء من ألمانيا، وحسب عنوان المراسلة، باحثاً عن المكان الذي يسكن فيه الشاب، حيث استأجر غرفة تملكها أرملة مع ابنتها الوحيدة. استأجر دوستويفسكي تلك الغرفة، وظل من هناك يزور قبر ابنه، ويذهب إلى الشرطة، للبحث عن أغراضه التي اكتشف أن الشرطة أخذتها، بما فيها الرسائل الكثيرة التي كانت بينهما. ظل ينتظر طويلاً الإفراج عن هذه الوثائق، لأن الشرطة كانت تحللها لتتبع خيوط حادثة الوفاة. تظهر في منتصف الطريق صديقة للشاب الراحل، وتسرّ لدوستويفسكي أن بافل ألكسندروفيتش لم ينتحر، بل قتلته الشرطة، لينبثق فصل جديد من رحلة دوستويفسكي الذي كان في  ذلك الوقت معروفاً، حتى إن صاحبة المنزل كانت تحتفظ ببعض رواياته، وكانت تعبّر عن إعجابها الشديد برواية "المساكين" التي كان زوجها أيضاً مفتتناً بها.
الكتاب مليء بصور إنسانية عالية، أجاد ج. م. كويتزي التقاطها والتماهي فيها، منها تلك الصورة التي حدثت له في الليل، حين دار حوار بينه وبين مشرّد فقد ابنيه ولم يستطع معالجتهما: "كان بإمكاننا أن ننقذهما لو كان لدينا المال لندفع لأطباء جيدين. مأساة ولكن من يهتم؟ المأساة في كل مكان عندنا في الوقت الحاضر. المأساة أصبحت طريق العالم". فحمل دوستويفسكي المشرّد معه إلى غرفته، وأعطاه ما أعدت له المرأة صاحبة المنزل من طعام، ثم طلب منه أن يغادر.
نقف هنا، ومن أحداث كثيرة أخرى، على جزء من طبيعة الكاتب العملاق، في علاقته مع البشر واقترابه منهم (ولكن ليس من دون حذر)، وذلك بقصد تعمّقه في مآسيهم من كل أبعادها، وهو ما عكسته روائعه الخالدة التي كان يحرص كبار الكتّاب على قراءتها، وهذا مثلاً ما كان يفعله الكاتب الأميركي المؤثر، وليم فوكنر، إذا عرفنا أنه كان يخصّص شهوراً من كل عام لإعادة قراءة جميع أعمال دوستويفسكي.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي