إذا لم تقع الحرب
تُسعفك شواهدُ وقرائنُ ومقارباتٌ ومماثلاتٌ بأكثر من برهان ودليل، إذا رجّحتَ أو أكّدتَ أن غزوا جزئيا أو شاملا، ستُقدم عليه روسيا في أوكرانيا، مع ضرباتٍ صاروخيةٍ قوية. ولن تعدم وجود ما يوازيها إذا رجّحتَ أو أكّدتَ أن هذا لن يحدُث، وأن أوكرانيا ستبقى فقط تحت وقع تلويحاتٍ روسيةٍ ضاغطةٍ، ومساوماتٍ دؤوبةٍ مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وكفى الله الجميع شر القتال. ولأن القصة كلها فيها ما فيها من "شغلٍ" أميركي ظاهر، إعلامي ودعائي، يتوسّل التهويل في صناعة قناعاتٍ بأن الرئيس بوتين عازمٌ تماما على غزو أوكرانيا، أو أقلّه إن خطر اجتياح روسيا هذا البلد، خلال أيام، "مرتفعٌ جدا"، بتعبير الرئيس بايدن، فإنك تحتاج إلى مقادير من الحذر (والارتياب أيضا؟) في استقبال الأخبار الأميركية والغربية، وإنْ تُساق مصحوبةً بما يعزّزها عن تحرّكاتٍ وحشودٍ عسكريةٍ روسيةٍ على بعض الحدود (الطويلة جدا) مع أوكرانيا، تُشهر عنها موسكو بنفسها، سيما وأنه صحيحٌ، على الأغلب، قول وزارة الدفاع الروسية، إن 47 طائرة استطلاع و21 طائرة مسيّرة، أجنبية، قامت بعمليات استطلاع قرب الأجواء الروسية. ومبعث الحذر أنك لا تحتاج عقل كيسنجر لتستشعر أن الولايات المتحدة كأنها ترغبُ فعلا في أن يرتكب بوتين فعل الغزو الذي صارت أحجيتُه، إنْ سيقع أو لن يقع، موضوع دردشاتٍ منزليةٍ مرتجلة. وإذا حدّثتك نفسُك بأن بوتين، بما تتوطّن في مداركه من أفكارٍ فوق قومية، وبما في جوانحَه من نوستالجياتٍ سوفييتية، فإنه لا بد سيفعلها، ما دام الأمر صار يتعلق بأن أميركا "جاءت إلينا بصواريخها وصارت على عتبة بيتنا"، على ما أفضى من قولٍ صريح. وللرجل سوابقُه، لمّا تدخلت القوات الروسية في جورجيا وسيطرت على أوسيتيا الجنوبية في عام 2008 (كان رئيس الوزراء والحاكم الفعلي في روسيا)، ولمّا سيطرت في 2014 على شبه جزيرة القرم وضمّتها، ولمّا دشّن بوتين في 2015 تدخلا عسكريا نشطا في سورية. وقبل هذه كلها، كان ضابط الاستخبارات القديم رئيسا للوزراء إبّان الرئيس يلتسين، لمّا تدخلت روسيا في إقليم كوسوفو انتصارا لميلوسيفيتش في مواجهة مع حلف شمال الأطلسي هناك. وليس منسيا أنه كان وراء إلغاء اتفاقية سلام مع أهل الشيشان، وضم الإقليم (أو الجمهورية الحبيبة بلغتهم) وضمّه للاتحاد الروسي مجدّدا.
إذن، هذا أرشيفٌ يعضُد (عذرا للمفردة الثقيلة الوقع) ما يشيعه الأميركيون عن استعداداتٍ روسيةٍ عسكريةٍ جاهزة لغزوٍ في أوكرانيا، تتواتر في واشنطن مواعيد مرجّحة (أو مقترحة؟!) له، وربما يمنح سيناريو الاستخبارات الأميركية، كما أعلن الوزير بلينكن، بعض الصدقية (صواريخ وقنابل أولا، ثم هجمات إلكترونية، ثم توغل دبابات تستهدف أهدافا رئيسية، بما فيها في كييف). وهذه استعداداتٌ لا نحتاج بيانات حلف الأطلسي ولا البنتاغون حتى نتبيّنها. وفي المقابل، ثمّة الصور لتحفّز الجيش الأوكراني التي نلقاها على الشاشات نحدّق فيها جيدا، فمشاهد فيها لثلوجٍ كثيفةٍ وثقيلةٍ تُغري عيوننا بالنظر فيها أكثر وأكثر. ولكن، أرشيف بوتين، طغيان الشعور الروسي الراهن باستعادة عَظمةٍ آفلةٍ، إصرار موسكو على عدم اقتراب "الناتو" من الجوار الروسي في أوكرانيا، بعد خديعته لها، لمّا كانت وعودٌ سابقةٌ لها بأنه لن يفعلها ويتمدّد شرقا، فصار في الجوار القريب، أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بعد رومانيا وبلغاريا وبولندا، كل هذه تتيح خلاصاتٍ "منطقية"، تنهض على مقدّماتٍ صحيحة، وتفترض صحّة النتائج، وأول هذه غزو روسي في أوكرانيا، فيما التعقيداتُ العويصة لحساباتٍ ورهاناتٍ عديدة، ليس بالضرورة أنها معلومةٌ لدينا في الصحافات ووسائل الإعلام، لا تسوق، بالضرورة، إلى أن غيوما كثيفةً في السماء لا بد أن أمطارا تعقبها.
إذا وقعت الحرب، ما سيجري سيُنبئ عن نفسه، على غير صعيد، الكارثي والجيوسياسي، والعبور من سجالات حربٍ باردةٍ منظورة، أقوالا وأفعالا، إلى أخرى ساخنةٍ ليس في الوسع تبيّن خرائطها. أما إذا لم تنشب الحرب، ما هو السيناريو الأرجح؟ إنه نجاح بوتين، وارتداد أميركا وحلف الناتو عما يدبّران، في أوكرانيا وربما في غيرها، والتورّط في مفاوضاتٍ ومحادثاتٍ مديدة، نعاين في غضونها تراجعاتٍ روسية في غير موضع وموضوع، غير أن الحسبة في خواتيمها لموسكو لا لواشنطن.