أُكلتم يوم أُكلت غزّة
رغم ما عرف عنه من فطنة ودهاء، شاع عن ملك الأردن الراحل، الحسين بن طلال، (1953 - 1999) أنه كان يداوم على اتخاذ القرار المناسب في الوقت غير المناسب، واتخاذ القرار غير المناسب في الوقت المناسب. ينطبق هذا الكلام على ثلاث مناسبات مفصلية: الأولى، عندما قرّر الملك فجأة أن يتحالف مع خصمه اللدود، الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قبل أيام قليلة فقط من عدوان إسرائيل عام 1967، ويدخل الحرب، ما أدّى به الى خسارة نصف مملكته (الضفة الغربية التي صارت جزءاً من الأردن اعتباراً من عام 1950). الثانية، عندما أحجم الملك عن دخول حرب عام 1973 إلى جانب سورية ومصر، ولو فعل لحصد بعض ما حصده حافظ الأسد وأنور السادات من نتائج نصر، ولو جزئياً، ضد إسرائيل، لا بل ربما حاز المجد من أطرافه، إذ كان بإمكانه لو شارك في الحرب أن يشطر إسرائيل إلى نصفين، فيما هي منشغلة على الجبهة السورية شمالاً والجبهة المصرية جنوباً. بدلاً من ذلك ذهب الملك، كما بات معروفاً، وأخبر الإسرائيليين بالهجوم المترقب، لكن هؤلاء لم يهتموا، من فرط غطرستهم، بالأمر كما ينبغي. الخطأ الثالث الذي ارتكبه الملك تمثل في وقوفه إلى جانب صدّام حسين في غزو الكويت عام 1990 ما أفقده دعم أميركا والدول العربية، وأسهم في عزلته التي لم يخرجه منها إلا توقيعه اتفاق وادي عربة مع إسرائيل عام 1994. المفارقة أن الملك قرّر أن يناصب العراق العداء عندما بدأ هذا الأخير يخرج من عزلته العربية في أواخر التسعينيات، وقد أكسبه ذلك غضب صدّام الذي قرر أن يعتمد سورية وتركيا لتنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء، حارماً الأردن من عوائد اقتصادية كبيرة.
رغم اختلاف السياقات والتفاصيل لازم سوء التقدير نفسه حزب الله في مناسبات لا تقل أهمية عن تلك التي ذكرناها آنفاً، ففي عام 2006 أقر الحزب أنه أخطأ عندما تورّط في خطف ثلاثة جنود إسرائيليين، ما أدخله في حرب مدمّرة أتت على جزء كبير من قدراته العسكرية، وأحدثت دماراً هائلاً في بنية لبنان التحتية وفي ممتلكات حاضنته الشعبية. لكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الحزب كان عندما تردّد في دخول الحرب ضد إسرائيل مباشرة عقب عملية طوفان الأقصى. تقول التقديرات العسكرية الإسرائيلية، أن إسرائيل كانت "محظوظة" في أن حزب الله تردّد في الرمي بثقله العسكري وراء "حماس" في اليومين الأولين لحرب غزّة، ولو أنه فعل لاجتاح مناطق واسعة من شمال فلسطين، ولما أمكن لإسرائيل أن توقفه إلا على حدود عكا، نتيجة الصدمة والشلل الذي أصاب صناعة القرار فيها.
بعد استيعاب الصدمة، كان واضحاً أن إسرائيل تريد التفرغ كليّاً لحربها في غزة لتحقيق أهدافها المتمثلة في القضاء على حماس وتحرير الأسرى، وأنها ليست في وارد فتح جبهة في الشمال ولا هي قادرة على ذلك، خاصة أنها قرّرت تخصيص ثلاث فرق عسكرية للضفة الغربية خوفاً من انفجار الوضع هناك، هذا يعني أن إسرائيل لم تكن تملك ما يكفي من القدرات العسكرية لخوض حرب على جبهتين. الولايات المتحدة كانت تدرك هذا تماماً، لذلك وقع على عاتقها مهمة منع توسع الحرب خارج غزة حتى تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها. ورغم أن إسرائيل لم تحقق أهدافها في القضاء على حماس وإطلاق الأسرى، إلا أن غزة الجريحة ما عادت تشكّل اليوم أدنى خطر على إسرائيل، وهذا ما حدا بنتنياهو إلى نقل تركيزه إلى الشمال. لقد أخطأ حزب الله عندما ظنّ أنه سينجو إذا ما هو التزم بقواعد اللعبة التي فرضتها إسرائيل منذ بداية الحرب، فجعل يرد عليها في مناطق مفتوحة لا توجعها، حتى يتجنب من جهة دفع الثمن فيما يعطي حلفاءه انطباعاً بأنه يشارك معهم الحرب. الآن وقد فرغت إسرائيل من غزة فقد جاء دوره. كان على حزب الله أن يدرك ما كان يعرفه مبتدئ في السياسة، أنه أُكل يوم أُكلت غزة، دعك من المحللين السياسيين الذين صدعوا رؤوسنا خلال العام في الحديث عن أن اتجاهات الحرب مرهونة باعتبارات نتنياهو الشخصية وحساباته السياسية الضيقة.