أي جالية يهودية مغربية؟
يستقرّ في سردياتٍ مغربيةٍ، رسميةٍ خصوصا وغير رسميةٍ ليست قليلة، وصفٌ للإسرائيليين في دولة الاحتلال، المغاربة سابقا، بأنهم "جالية" مغربية، أو من أصولٍ مغربية. وقد جاء عليهم هؤلاء، بصفتهم هذه، بيان الديوان الملكي المغربي الذي أعلن، يوم الجمعة الماضي، "استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية في أقرب الآجال" مع إسرائيل، حيث أفاد بأن المغرب اتخذ قراره هذا، بالنظر إلى دور تاريخي، ما فتئ يقوم به "في التقريب بين شعوب المنطقة"، و"..."، و"نظرا للروابط الخاصة التي تجمع الجالية اليهودية من أصل مغربي، بمن فيهم الموجودون في إسرائيل". كما أطنب في تسمية "الجالية" هذه لسان وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، الذي أفرط، منذ مساء الجمعة، في إعطاء التصريحات لوسائل الإعلام العربية والأجنبية (والإسرائيلية). وأخيرا، اعتبر سفير المغرب في الدوحة، محمد ستري، إن لبلاده "جالية" كبيرة في إسرائيل "يفوق تعدادها 700 ألف يهودي مغربي". وهذا كله كلامٌ موصولٌ بتوطّن مفهوم "الجالية" عن أولئك اليهود (الإسرائيليين) في أدبياتٍ مغربيةٍ عريضة. والظاهر أن ثمّة غرضا لجريان الكلام الكثير، منذ عقود، عن تلك "الجالية"، وهو الاتكاء على صلةٍ بأولئك اليهود (بتحاشي التأشير إلى صفتهم إسرائيليين)، لتكون واحدةً من ذرائع بقي العرش المغربي يشيعها لصلاته التي لم تنقطع مع إسرائيل، من دون اكتراثٍ بما في قصة اللعب على التسميات والمصطلحات من احتيالٍ غير خاف، ومن صرف الأنظار عن حقائق بادية، بغرض توجيهها إلى "حقائق" مفتعلة، زائفةٍ في واحدٍ من نعوتها.
أما إذا جرى الاستئناس، في جدلٍ يمكن أن يثور في هذا الخصوص، بأن الدولة المغربية قرّرت في العام 1976 عدم إسقاط جنسيتها عن اليهود المغاربة الذين هاجروا في سنواتٍ سابقة، فذلك لا وزن له أمام ما يؤدّيه اليهودي المغربي، منذ ساعة وصوله إلى "وطنه" في دولة إسرائيل، من استحقاقاتٍ عليه، بموجب مواطنته المستجدّة، تجاه هذه الدولة. وليست تأدية الخدمة العسكرية في "جيش الدفاع" إلا واحدةً من هذه الموجبات الملزَم بها كل مواطن إسرائيلي. أما حكاية احتفاظ اليهود المغاربة الذين صاروا إسرائيليين بفلكلورياتٍ تخصّ قديمَهم الذي ينحدرون منه، في فاس ومكناس والصويرة والدار البيضاء و..، فذلك لا معنى له في غضون مزاولة هؤلاء مواطنتَهم في دولتهم، إسرائيل. ولا قال أحدٌ إن ثمّةَ غضاضةٌ في طبخهم الكسكسي والطاجين في بيوتهم مع أدائهم قسم الولاء لدولتهم هذه التي غادروا إليها بروحٍ "وطنية"، سواء في مدارسهم الابتدائية، أو عندما يصبح أيٌّ منهم وزيرا في الحكومة، للخارجية مثلا، كما ديفيد ليفي، أو رئيسا لأركان الجيش، كما الجنرال غادي إيزنكوت. ولأن الأمر، في جوهره، بالبساطة هذه، تبدو أزعومة "الجالية" شديدة الركاكة.
ومن أجل المغرب الذي نحبّ، لا بأس من القول هنا إن الكلام عن "جاليةٍ" يهوديةٍ مغربيةٍ في إسرائيل ينطوي على ما يُحرج المغاربة كثيرا، عندما يُضمر أن بلدهم هو المورّد البشري العربي الأهم لبناء دولة التوحش الاستيطاني، وإنْ تهريبا في أطوارٍ أولى، وفي البال أن الإسرائيليين من أصولٍ مغربيةٍ هم عُشر اليهود فيها، وعددهم نحو 500 ألف (هل صحيحٌ أنهم 700 ألف؟)، وكثيرون منهم أصحاب ميولٍ شديدة العنصرية ضد الفلسطينيين والعرب. ولمّا كانت القوانين المغربية تتيح لهؤلاء استعادة الجنسية المغربية، فإن الأدْعى أن ينبني خطابٌ أكثر شجاعةً وأقوى أثرا، وأبلغ من هشاشة قصة الجالية (الكاريكاتيرية؟)، يقوم على دعوة المغاربة إلى وطنهم، والتشديد على عروبتهم، فيكونوا فيه مواطنين، يوالون العرش الذي ما قصّر في حمايتهم وإيوائهم، من منطلق مواطنيتهم، لمّا استهدفتهم قوى وحكومات غربية، في فرنسا إبّان فيشي مثلا. ولقائلٍ أن يقول إن دعوةً مثل هذه ستكون غريبةً، وغير واقعية أبدا. ولا يمنع التسليم بهذا من إشهار هذا الخطاب بكيفيةٍ حديثةٍ، وعصريةٍ، ومتخفّفةٍ من أي حمولاتٍ وموروثاتٍ ما أمكن. وفي البال أن الإخواني الراحل، عصام العريان، فعلها مرّة، ودعا المصريين اليهود في إسرائيل إلى التخلي عن إسرائيليتهم والعودة إلى وطنهم..
ماذا لو قال الديوان الملكي المغربي، أو ناصر بوريطة، شيئا من هذا؟ سيكون أمرٌ كهذا، على الأرجح، أوقعَ أثرا، وأشدّ سجالية، وأنفع إعلاميا وسياسيا، من قصة تسهيل أسفار الإسرائيليين اليهود من أرومةٍ مغربيةٍ إلى مراكش وطنجة، سياحا وزوارا، جوالين بين معابد قديمة، وفي أسواق عتيقة، والتقاط الصور فيها، ثم العودة من "مخيالٍ" سارح في أنثروبولوجياتٍ وفلكلورياتٍ متروكةٍ لمشاغل أكاديميين وصحافيين متعجّلين، إلى حيث الدولة الوطن، الجيش والسلاح، المستوطنة، القوة، ودائما مع عداء العرب أينما كانوا.