أين نحن من أزمة عالمية تلوح؟

03 ديسمبر 2021
+ الخط -

بدأت أزمة العام 2008 بانهيار في المؤسسات المالية الأميركية، سرعان ما وصل إلى الأسواق الأوروبية، ولأن الاقتصاد الأميركي هو الأقوى عالميًا، وسيطرة أميركا على حصة كبيرة من التجارة العالمية، ثم احتلال الدولار الأميركي ما يفوق 60% من السيولة النقدية في العالم، فإن آثار الأزمة وانعكاساتها شملت الاقتصادات العالمية عمومًا، من الاقتصادات الأوروبية إلى اقتصادات الدول النامية.. هل استفاد العالم من أزماته السابقة، علمًا أن الفاصل الزمني بين الأزمة الأخيرة وبوادر أزمة عالمية تلوح في الأفق اليوم ليس كبيرًا؟

يحصل الكساد الاقتصادي عندما ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة تتعدّى الـ10%، وبما أن آثاره يمكن أن تستمر سنوات، كما تبرهن الأزمات السابقة، فإن الأعمدة الأساسية للاقتصاد، خصوصا في الدول القوية، تتضعضع، كالأنشطة التجارية والصناعية والمصرفية. لا يمكن للإنسان العادي، المقيم في أوروبا أو الدول القوية اقتصاديًّا، إلّا أن يقف قلقًا أمام التغيرات التي تطرأ على حياته منذ سنتين على الأقل، التي ازدادت وتيرتها مع تفشّي فيروس كورونا وامتداد الوباء إلى كل أنحاء الكوكب من دون استثناء، ففي أوروبا بدأت مؤشّرات التضخم تتمادى على السلع الحياتية، من دون تحسّن في دخل الفرد، إذ حتى الحكومات بدت مرتبكة أمام تغوّل الفيروس، والاندفاعة الأولى من الحكومات ذات التوجه الاجتماعي، كما ألمانيا وفرنسا ودول أخرى أوروبية، ومنحها مواطنيها بعض المساعدات، وتقديم الدعم لأصحاب الشركات والمهن لتخفيف آثار الإغلاق، لم تكن لها بصمة واضحة، بل بدت كما لو أنها ذهبت أدراج الرياح، ولم تعد لدى الحكومات النيّة ولا القدرة على حلول ترقيعية من هذا النوع، فالأزمة أكبر من حلول مثلها.

بدأت مؤشّرات التضخم تتمادى على السلع الحياتية في أوروبا، من دون تحسّن في دخل الفرد

ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والعقارات والإيجارات، وانخفضت القوة الشرائية للعملة بنسبة ملموسة، والمستقبل ما زال غامضًا، في وقتٍ بدأت فيه ملامح أزمات اجتماعية وسياسية تلوح في الأفق، وباتت النزعات القومية والعنصرية ترتفع وتزداد قاعدتها الشعبية، فبعد توقعات البنك الدولي أن اقتصاد العالم سيشهد تعافيًا في هذا العام (2021) الذي أوشك على نهايته، نرى أن هناك ما يلوح في الأفق ويهدّد الاستقرار، ويثير القلق بشأن الوضع الاقتصادي والمالي في العالم، بسبب هذه العودة الشرسة للفيروس في جائحته الحالية التي تضرب العالم، وخصوصا أوروبا، ما يعيد إلى الأذهان مرحلة الإغلاق التي عمّت العالم في العام الفائت، وما نجم عنها من انهيارات اقتصادية وخسران فرص عمل وتردّي المستوى المعيشي في بلدانٍ عديدة، إذ تعاني اليوم أوروبا من ارتفاع عدد المصابين، ومن صعوبة اتخاذ إجراءاتٍ حازمة وفرض قوانين عامة للسيطرة على الوضع الصحي، في ظل وجود شرائح من مجتمعاتها، رافضة أخذ اللقاحات والإجراءات الوقائية الأخرى، وتناوئ الحكومات وترفض الامتثال للقوانين الصادرة بهذا الشأن، عدا أزمة الطاقة التي تشهدها دول الاتحاد الأوروبي، والصراع بينها وبين روسيا، المتخفّي بالتبادل في الممارسات ضد بعضهم بعضًا، ولعب روسيا بورقة الغاز وأوروبا بالعقوبات، واستغلال أزمة المهاجرين ورقة للضغط من دون الالتفات إلى المعاناة الإنسانية التي يعيشها أولئك.

بات المواطنون في هذه الدول يشعرون ببوادر أزمة، فعدا ارتفاع الأسعار، هناك البطء في تأمين بعض المواد، إذ ازدادت المدد اللازمة لتأمينها كثيرًا من بداية الموجة الأولى. وهناك مصانع وشركات لا تنتج سلعًا جديدة، بل تكتفي بطرح المخزّن لديها، بالإضافة إلى سجال دائم على مستوى الحكومات، فيما يتعلق بتعديل بعض القوانين المالية، من تحصيل ضرائب أو فواتير أو غرامات أو رسوم، وتعديل العقوبات الخاصة بمخالفتها، كذلك التغيرات التي تطرأ على مستوى البنية التحتية في المدن، وتعديل الشوارع لتستوعب عددا أكبر من وسائط النقل الصديقة للبيئة، كالدرّاجات الهوائية أو ما يشابهها، على حساب السيارات.

هناك ما يلوح في الأفق ويهدّد الاستقرار، ويثير القلق بشأن الوضع الاقتصادي والمالي في العالم

علامات كثيرة يمكن للمواطن أو المقيم في هذه الدول أن يلاحظها ويعيش آثارها. ولأن المواطن في هذه البلدان وصل إلى مستوى لا بأس به من إدراكه معنى الدولة والعقد المبرم معها، ومعنى الحقوق والواجبات، ومسؤوليته بالنسبة إلى سياسة البلاد واختيار ممثليه في مجالس النواب، ومراقبة أداء الحكومات المنتخبة، فإنه يتابع ويراقب ما يحصل من تغيرات تمس حياته في النهاية.

لكن المؤسف والمحزن أن مواطني بلداننا، التي لم تعد حتى تُصنّف على أساس اقتصادات نامية، بل صارت خارج التصنيفات، فإن خوفهم وقلقهم لم يعد يأبه بالمستقبل، بعد أن برهنت لهم الحروب والويلات وتآمر العالم ضدها، ابتداء من أنظمتها حتى آخر نظام ادّعى صداقته وحرصه عليه، أن المستقبل صار في غياهب النسيان، لم يعد من الأزمنة التي تشغلهم ولا يقلقون بشأنه، مواطنو بلداننا صاروا في هم التقاط لحظة الحياة الراهنة فقط، فالموت بجانبهم من كل صوب، ينام ويصحو معهم، الموت بكل الطرق المطروحة أمامهم، وليس بيدهم أن يختاروا حتى موتهم، بعد أن صار اختيار حياتهم نقمة أو لعنة عليهم، منذ قالوا لا في وجوه الطغيان، لا، هذه التي أودت بهم إلى خسران كل شيء، الماضي والمستقبل والأوطان ولقمة العيش.

ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والعقارات والإيجارات، وانخفضت القوة الشرائية للعملة بنسبة ملموسة، والمستقبل ما زال غامضاً

ما هو مستقبل هذه الشعوب المنتهكة المنهكة، في خضمّ هذه التحوّلات العالمية والاضطرابات التي تدفع القوى إلى إعادة حساباتها وسياساتها وخططها، وتدير عداواتها وتحالفاتها بطريقة تناسب المرحلة؟ نحن قبل هذا الفصل من تاريخ البشرية، الفصل الذي نشهده اليوم، لم نكن أكثر من تابعين لغيرنا، هذه حقيقة لا نستطيع مواربتها، صحيحٌ أنه تم جلاء المستعمر الحديث عنّا، لكننا لم ننل استقلالنا، بل زاد رهن أوطاننا إلى الخارج، في الأقاليم وفي البعيد. وهذا واقعنا في معظم البلدان التي هبّت شعوبها دليل على بعدنا الشاسع عن أن نكون أسياد أنفسنا وقراراتنا كي نستلم مصيرنا، محكومون باللعبة الدولية، ومصابون ببلوى أنظمةٍ لا يمكن استبدالها كما تهوى الشعوب أو تحلم، إمّا أنظمة عسكرية أو دينية، أو أنظمة قائمة على المحاصصة الطائفية، نشدّ مع اليد التي تشدّنا أكثر أو تُحكم قبضتها على رقابنا أكثر، فهل نخاف بعدها على اقتصاداتنا من الركود أو الكساد، ولم يعد لدينا في الأساس ناتج محلي إجمالي لنقلق من انخفاضه؟ هل نخاف على مؤسساتنا المالية من الانهيار، والشعوب كلها فقيرة بينما أموال حيتانها وطغاتها في البنوك الخارجية؟

يُحكى أن الملك فؤاد أصدر في مصر مرسومًا في العام 1931، تخفيفًا من أثر الكساد العالمي أو الانهيار الاقتصادي الذي حصل في أميركا عام 1929، وانتقل إلى باقي الدول، يقضي بإنشاء بنك تسليف زراعي مصري لإنقاذ الأراضي المحجوز عليها بسبب عدم تسديد الالتزامات، بكتلة نقدية تقدّر بأربعة ملايين جنيه من حساب الحكومة، وهذا مبلغ كبير حينها، جرى تقسيطها على خمس سنوات بدون فوائد، فأنقد عشرات الآلاف من الأراضي الزراعية. إنها من مهازل التاريخ أن نترحّم على تلك السنوات التي كنّا نتباهى بأننا تجاوزناها ومضينا في طريق نهضتنا الواهمة، أزماتنا اليوم تفوق أزمات العالم مجتمعةً من حيث استعصاؤها على الحلول.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن