أوكرانيا: توهان واستقلال

25 فبراير 2023
+ الخط -

لفهم شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يجب التركيز على حقيقة ثابتة في مجتمعين: المجتمع الروسي ومجتمع الاستخبارات. وتماهيهما في شخص بوتين يستولد حالة تميل إلى العدوانية في السلوكات السياسية، الفردية والجماعية. المجتمع الروسي في الأصل، وبانبثاقه من بيئة ثلجية باردة، يبدو أكثر قسوةً من غيره من شعوب الشرق الأوروبي، من دون أن يعني هذا الأمر موتاً للمشاعر والانفعالات. بالتالي، هنا يأتي دور مجتمع الاستخبارات الذي يقتل كل ما يتّصل بإنسانية الفرد، لمصلحة تحوّله إلى آلةٍ مع "رخصة للقتل".

أمر آخر لم ينله الرئيس الروسي: ضمان ولاء الأجيال الصاعدة، مثل ما كان يحصل أيام الاتحاد السوفييتي، بسبب الفجوة التي خلّفتها مرحلة انهيار الاتحاد وولادة روسيا بحدودها الحالية، بعد عام 1991، ولم تسمح باستمرارية العمل بتوجّهات مركزية الكرملين. لكنها حقبة انتهت. "التعبئة الجزئية" وغزو أوكرانيا وغيرهما من القوانين القامعة للحرّيات الفردية والسياسية، تسمح في مثل هذه الأوقات لبوتين بتمرير مشاريعه داخلياً، وفق شعار "لا صوت يعلو فوق صوت البندقية". وهو ما يقوم به أيضاً نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لجهة إجراء إقالاتٍ في مختلف المناصب السياسية والأمنية بذريعة "مكافحة الفساد".

كان معروضا، في 24 فبراير/ شباط 2022، على زيلينسكي الصعود على متن أول طائرة باتجاه الغرب، تاركاً بلاده في مهبّ الريح، لكنه رفض. وفي اليوم نفسه، كان بوتين يعتقد أن "النزهة الأوكرانية" ستبثّ الرعب في أرجاء القارّة الأوروبية فتخضع له، الأمر الذي لم يحصل. في 24 فبراير/ شباط 2023، ينظر بوتين حوله، فيجد على يساره شخصاً، حرص دوماً على إخفاء صلاته به، يقود معارك قواته في الشرق الأوكراني. مؤسّس مجموعة مرتزقة "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، أضحى الشخص الذي لا يرغب الكرملين في إغضابه، بل تزويده بالسلاح، كي لا يسمع انتقاداً يطاول وزارة الدفاع الروسية. على يمين بوتين يتمترس حاكم جمهورية الشيشان ذات الحكم الذاتي، رمضان قديروف. "الجنرال" الجديد في هيكلية الجيش الروسي بموجب مرسومٍ ممنوحٍ من بوتين.

من كان عنده مثل قديروف وبريغوجين، لـ"المهمات القذرة" لن يثق بجيشه، مهما أغدق عليه بالثناء والمديح. وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش الجنرال فاليري غيراسيموف، وهما ثاني وثالث أهم الشخصيات العسكرية في روسيا بعد بوتين، وتعرّضا لانتقادات لاذعة من بريغوجين وقديروف. لكن لا بأس، لا يجب على أحد التفكير باحتمال "حصول أمرٍ ما"، ولا الانزلاق إلى اقتتال داخلي. لكنه، في نهاية المطاف، من المحتّم وقوع الأسوأ، لانعدام القدرة على تعايش أطرافٍ مسلحة، منفصلة في هيكلياتها، على أرضٍ واحدة، مهما بلغت "قدسية" أي قضيةٍ تقاتل من أجلها.

في 24 فبراير/ شباط 2023، تحوّل الجيش الأوكراني إلى قوات حديثة، خصوصاً في مسألتي المرونة الميدانية، والقدرة على استيعاب تحوّلات المعارك. الطبيعة البيئية القاسية في روسيا، تنطبق أيضاً على أوكرانيا، وهو ما يجعل جنودَها يقاتلون بشراسة، ولو تعرّضوا للهزيمة، أكان في باخموت حالياً، أو قبلها في ماريوبول ودونيتسك وغيرهما. منذ عام، كان الجيش الأوكراني مجرّداً من كل عناصر القوة، وتشهد الاقتحامات السريعة للقوات الروسية والانفصالية في مطلع الحرب على ذلك. التبدّل الذي طرأ، وتدفّق سيل الإمدادات العسكرية الغربية للجيش الأوكراني، جعلا الأخيرة قوة قادرة، ليس فقط على صدّ القوات الروسية، بل أيضاً على دفعها خارج البلاد. وهو واقعٌ ستفرزه مجريات العام الحالي.

في الفترة المقبلة، وصولاً إلى 24 فبراير/ شباط 2024، يتطلّع بوتين إلى نجدةٍ صينيةٍ عسكرية. وتطبيق هذا التطلّع ليس مبدأً صينياً، ما لم تتعرّض بكين لاعتداءٍ ما تفتعله أجهزة استخباراتية لدفعها إلى التورّط العسكري المباشر إلى جانب روسيا. لكنها تبقى فرضيات. واقع توهان بوتين يبقى حقيقياً في السنة الأولى من تعميد الاستقلال الأوكراني بالدم.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".