أهل البغي
درجت العادة أن نفهم من عبارة "التلاعب بالعقول" أن يجرى الحديث عن دور الدعاية والتحريض في التأثير على الرأي العام والسيطرة عليه، عبر تحويل الكذب، أو نصف الحقيقة، إلى حقيقة، وتكريسه كذلك، وبذلك تحويل اتجاه الفعل والتفاعل مع هذا الحدث أو ذاك. لكن، هناك نوع آخر من التلاعب بالعقول الذي يندرج ضمن ما يمكن أن نسميه الصراع الإداري أو الصراع الوظيفي أو المناصبي. ويهدف هذا الصراع، في نهاية المطاف، إلى الرفع من شأن طرفٍ على حساب طرف آخر يتم الحط من شأنه بنتيجة العملية نفسها. ويحدُث هذا، بطبيعة الحال، في المنظومات أو المؤسسات القائمة على الولاء لمنصبٍ ما، يستمد فيه الشخص أهميته من مقدار قربه من هذا المركز ومقدار تبعيته له، وهي عادة مؤسسات ومنظومات تقع ضمن الأنظمة الديكتاتورية أو منبثقة عنها أو وريثة لها، حيث يمكن أن نجد بعض هذه المؤسسات ضمن نطاق المعارضات التي تقف ضد هذا النظام، ولكنها لم تتمكّن من الشفاء من الأمراض التي اكتسبتها في ظله، أو في مؤسسات قامت أساسا على محاربة الديكتاتورية. لكن، سرعان ما حولها المتملقون المنحدرون من العقلية الإدارية الديكتاتورية إلى مؤسسة قائمة على الولاءات بدلا من الإنجازات، وسرعان ما يتحول مركز القرار فيها إلى نموذج محدّث من الديكتاتور، هدف كل النشاطات إرضاؤه وكسب وده والتقرب إليه وإبعاد الآخرين عنه بأكبر قدر ممكن، وإقصاؤهم إذا توفر إلى ذلك سبيل.
ويعتمد هذا النوع من التلاعب بالعقول على عدة أساليب، أهمها "التأليب"، حيث يضخ المتلاعب أكبر قدر من المعلومات المزيفة أو الأكاذيب إلى عقل الطرفين (مركز القرار والضحية)، حتى يتراكم كم من الكراهية، يضمرها كل طرف للآخر، ليشكل، في نهاية المطاف، وضعا غير قابل للتعاون بين الطرفين، وخروج الطرف الأضعف في المعادلة من اللعبة، أو إلى متابعة العمل في ظل ثقة مفقودة بين الطرفين، تجعل العمل أقل نوعيةً مما سيكون عليه في حال كانت الثقة موجودة. ولعل القصة الواردة في باب الأسد والثور في كتاب "كليلة ودمنة" تعبر تعبيراً دقيقاً عن هذه العملية، حيث يشعر ابن آوى (دمنة)، محظي الأسد، بالغيرة من الثور (شتربة) محظيه الآخر، بسبب تصاعد رفعة الأخير عند الأسد وتراجع مكانته بسبب ذلك. ولا يجد دمنة للتخلص من هذا الوضع طريقة أفضل من التلاعب بعقلي الأسد والثور، عبر تأليب أحدهما على الآخر. ويفعل ذلك بنجاح، حيث يمرّر كمية من المعلومات الكاذبة إلى الثور وإلى الأسد، فيقنع الطرف الأقوى الذي هو الأسد بأن الثور يحيك ضده مؤامرة، وهذا أكثر ما يخشاه الأسد عادة. وكذلك، يقنع الثور بأنّ الأسد يريد التخلص منه. وفي نهاية المطاف، تقود كمية المعلومات الكاذبة التي ضخها ابن آوى في رأسي الأسد والثور إلى المصادمة بين الطرفين، التي يخسر في نهايتها الضحية (شتربة) حياته، ويعود دمنة المتلاعب بالعقول إلى مكانته، بل تتعزّز تلك المكانة، بغض النظر عن نهاية الحكاية في الكتاب.
وتتبع التأليب، في أحيان كثيرة، مراحل وطرق متسلسلة، حيث يسرّب المتلاعبون بالعقول مثلاً الشك بقدرات الضحية وكفاءاتها عبر معلومات مضللة تقدّم إلى المركز، تجعله لا يقدر على معرفة الضحية بشكل صحيح، وتجعل ثقته بها تتضاءل. وتترافق مع هذه العملية عملية أخرى أكثر تضليلاً، تتلخص بمحاولة جعل الضحية نفسها تفقد الثقة بمقدراتها عبر إيجاد رأي عام مصغر داخل تلك المنظومة أو المؤسسة، توحي للضحية بأنّ ما تقدّمه ليس في المستوى المطلوب. وبالتالي، خلق الريبة في نفس الضحية التي تستسلم، في أحيانٍ كثيرة، لمثل هذا الشعور، وتتعرض للبلبلة التي تؤدّي، فعلاً، إلى تدني منتج الضحية وارتباكها أو حتى إلى إقصائها كلياً، كما حدث مع شتربة الذي يمكن تلخيص الموضوع بعبارة وردت على لسانه في الكتاب، يقول فيها ما معناه "إذا اجتمع أهل البغي على البريء أهلكوه".
أهل البغي في هذه المعادلة هم المتلاعبون بالعقول، الذين، من أجل مصالحهم الشخصية، يدمّرون عملية الإنتاج والإنتاج نفسه، بغض النظر عن نوعها، فكرية أو مادية، أو غير ذلك.