15 نوفمبر 2024
أميركا في "كتاب أخضر"
أين السينما العالية في فيلم "كتاب أخضر"، الأميركي، الكوميدي نوعاً ما، وتجعلُه يفوز بجائزة أوسكار لأحسن فيلم في 2018؟ لم يترشّح مخرجُه، بيتر فاريلي، لجائزة أحسن إخراج، ربما لإحساسٍ بأنها غيرَ كافيةٍ مقاديرُ قوة السينما فيه، في جاذبيّة الصورة ونباهة الإخراج المدهش مثلاً. قرأنا أن توافقا تمّ بين أعضاء أكاديمية العلوم والفنون (هل هم ستة آلاف حقا؟) وراء الفوز. ولكن، هل أحرز هذا الفيلم المتقن الجائزة الأرفع من دون أن يستحقّها؟ كلا... لأنه، ببساطة، عملٌ سينمائيٌّ ينهض على رهافةٍ عاليةٍ، وعلى مضامين إنسانية، ما زال الإلحاح عليها ضرورياً. تستقبلُها، أنت مشاهدُ الفيلم، عبر حكايةٍ، يبنيها سيناريو عالي الحرارة، بالإيحاءات الكثيفة فيه، عندما يُوازي الطريفَ الظاهر بالجارح العميق، المكشوف قدّامك بالمختفي في جوانيّات بطلي الحكاية، الحقيقية الوقائع، والتي تعود إلى 1962، عازف البيانو، دون شيرلي، الأسود البشرة، الجادّ الأنيق، والكئيب إلى حد ما، والميسور، وسائقُه (وحارسُه؟)، توني ليب، الساخر، والأكول، والمدخّن، الأبيض الإيطالي الأصل، ذو الميول العنصرية التي تختفي مع نهاية الفيلم.
لستَ تدري لماذا اسم "كتاب أخضر" للفيلم الذي ظلّ مركزياً جداً فيه الحوارُ بين الرجلين، في طريقهما من نيويورك إلى الجنوب الأميركي الذي جالا في مدنٍ وبلداتٍ كثيرةٍ فيه، نحو شهرين عشيّة أعياد الميلاد. هو كتابٌ صغيرٌ إرشاديٌّ إلى المطاعم والحانات والفنادق الصغيرة ومحطات الوقود. يُطالُعه توني ليب أحياناً، للتسلية وبقلة اكتراث غالباً. والإيحاء الممكن هنا أن الطريق لتجاوز المسافة الواسعة بين مزاجيْ عازف البيانو الأسود والسائق الأبيض لا يتم الاسترشاد بشـأنها من أي معرفةٍ خارجيةٍ، وإنما بالاقتراب الإنساني، باحتكاك هذيْن المزاجيْن، اللذيْن كثيراً ما تصادما، ثم تقاطعا، ثم اتّسعت مساحات المشترك الإنساني الجامع بينهما، كينونتيْن لهما جوهران داخليّان، ثمّة ما يمكن أن يربطهما، يقع عليه توني ليب، عندما يوقن أن المعرفة التي يحوزُها دون شيرلي أهم من لون بشرته. وعندما يعثر دون شيرلي على حقيقة أن اعتدادَه بذاته قيمةٌ لا يجوز له التنازل عنها، وهو يبحث عن اعتراف الآخر به. وهذا ما يحدُث في آخر محطات الجولة في الجنوب البعيد، والتي كانت جولةً يعزف في أثنائها على البيانو في حفلات ومطاعم وفنادق راقية لأوساطٍ من البيض. وافق على عدم السماح له باستخدام مرحاضٍ لهؤلاء، فثمّة آخر لغيرهم خارج صالة الحفل، لكنه ذهب إلى مرحاض في الفندق ثم عاد. وتاليا، في الحفل الأخير، يرفض عدم السماح له بتناول العشاء في المطعم الفاخر الذي يُحافِظ على "تقاليده" التي لا تُجيز للسود الأكل فيه. يحتجّ دون شيرلي بأن لا يعزف لهؤلاء، ثم يذهب، بصحبة توني ليب، إلى حانةٍ للسود، وهناك يعزِف ويعزِف، ويفرح سائقُه الصديق...
وقائع أخرى في الفيلم ينكشف فيها الرجلان على بعضهما أفضل، يأخذان من طباع بعضهما، السيئة والجيدة. وفي الأثناء، تبدو لقطةٌ في أثناء الطريق دالةً، عندما يستغرب رجلٌ وزوجته في سيارتهما ما يريانه، أبيض يقود سيارةً لرجل أسود يجلس في الكرسي الخلفي باعتزاز. كما لقطةٌ أخرى، عندما يوقفان السيارة لإصلاح عطل، ومصادفةً يكونان أمام حقلٍ واسع، يشتغل فيه سودٌ عبيدٌ، ينظرون باستغرابٍ لمشهد الرجل الأسود مصحوباً بسائقه الأبيض. وفي هذا كله وغيره، أنت ترى مقطعاً من أميركا الرجعية، قبل عامٍ من خطبة مارتن لوثر كينغ عن حلمه بإنهاء التمييز العنصري. وقبل عقودٍ من فوز باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة، ومن تولّي كوندوليزا رايس وزارة الخارجية، السوداء التي كانت تعزف البيانو، ودرست في الاتحاد السوفياتي، وعرفت الروسية، تماماً كما دون شيرلي الذي يُؤتى في سيرته (توفي في العام 2013، كما صديقُه توني ليب)، على عزفه البيانو في البيت الأبيض. شاهدناه في الفيلم يُملي على سائقه عبارات الحب والشوق، ليكتبها هذا في رسائل إلى زوجته التي كان بديعاً في آخر لقطات الفيلم الحاذق أن نعرف أنها استشعرت الأمر، فتشكر دوني شيرلي على صنيعِه هذا.
للفيلم بطلان، فيجو مورتينيسون (توني ليب)، وماهرشالا علي (دوني شارلي)، وقصته تتعلق باثنيْهما، وإنْ يوحَى بأنها عن عازف البيانو، غير أننا سنعرف أن ماهرشالا علي ممثلٌ مساعد، عندما يُمنح جائزة أفضل ممثل مساعد في "أوسكار".. لماذا؟
لستَ تدري لماذا اسم "كتاب أخضر" للفيلم الذي ظلّ مركزياً جداً فيه الحوارُ بين الرجلين، في طريقهما من نيويورك إلى الجنوب الأميركي الذي جالا في مدنٍ وبلداتٍ كثيرةٍ فيه، نحو شهرين عشيّة أعياد الميلاد. هو كتابٌ صغيرٌ إرشاديٌّ إلى المطاعم والحانات والفنادق الصغيرة ومحطات الوقود. يُطالُعه توني ليب أحياناً، للتسلية وبقلة اكتراث غالباً. والإيحاء الممكن هنا أن الطريق لتجاوز المسافة الواسعة بين مزاجيْ عازف البيانو الأسود والسائق الأبيض لا يتم الاسترشاد بشـأنها من أي معرفةٍ خارجيةٍ، وإنما بالاقتراب الإنساني، باحتكاك هذيْن المزاجيْن، اللذيْن كثيراً ما تصادما، ثم تقاطعا، ثم اتّسعت مساحات المشترك الإنساني الجامع بينهما، كينونتيْن لهما جوهران داخليّان، ثمّة ما يمكن أن يربطهما، يقع عليه توني ليب، عندما يوقن أن المعرفة التي يحوزُها دون شيرلي أهم من لون بشرته. وعندما يعثر دون شيرلي على حقيقة أن اعتدادَه بذاته قيمةٌ لا يجوز له التنازل عنها، وهو يبحث عن اعتراف الآخر به. وهذا ما يحدُث في آخر محطات الجولة في الجنوب البعيد، والتي كانت جولةً يعزف في أثنائها على البيانو في حفلات ومطاعم وفنادق راقية لأوساطٍ من البيض. وافق على عدم السماح له باستخدام مرحاضٍ لهؤلاء، فثمّة آخر لغيرهم خارج صالة الحفل، لكنه ذهب إلى مرحاض في الفندق ثم عاد. وتاليا، في الحفل الأخير، يرفض عدم السماح له بتناول العشاء في المطعم الفاخر الذي يُحافِظ على "تقاليده" التي لا تُجيز للسود الأكل فيه. يحتجّ دون شيرلي بأن لا يعزف لهؤلاء، ثم يذهب، بصحبة توني ليب، إلى حانةٍ للسود، وهناك يعزِف ويعزِف، ويفرح سائقُه الصديق...
وقائع أخرى في الفيلم ينكشف فيها الرجلان على بعضهما أفضل، يأخذان من طباع بعضهما، السيئة والجيدة. وفي الأثناء، تبدو لقطةٌ في أثناء الطريق دالةً، عندما يستغرب رجلٌ وزوجته في سيارتهما ما يريانه، أبيض يقود سيارةً لرجل أسود يجلس في الكرسي الخلفي باعتزاز. كما لقطةٌ أخرى، عندما يوقفان السيارة لإصلاح عطل، ومصادفةً يكونان أمام حقلٍ واسع، يشتغل فيه سودٌ عبيدٌ، ينظرون باستغرابٍ لمشهد الرجل الأسود مصحوباً بسائقه الأبيض. وفي هذا كله وغيره، أنت ترى مقطعاً من أميركا الرجعية، قبل عامٍ من خطبة مارتن لوثر كينغ عن حلمه بإنهاء التمييز العنصري. وقبل عقودٍ من فوز باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة، ومن تولّي كوندوليزا رايس وزارة الخارجية، السوداء التي كانت تعزف البيانو، ودرست في الاتحاد السوفياتي، وعرفت الروسية، تماماً كما دون شيرلي الذي يُؤتى في سيرته (توفي في العام 2013، كما صديقُه توني ليب)، على عزفه البيانو في البيت الأبيض. شاهدناه في الفيلم يُملي على سائقه عبارات الحب والشوق، ليكتبها هذا في رسائل إلى زوجته التي كان بديعاً في آخر لقطات الفيلم الحاذق أن نعرف أنها استشعرت الأمر، فتشكر دوني شيرلي على صنيعِه هذا.
للفيلم بطلان، فيجو مورتينيسون (توني ليب)، وماهرشالا علي (دوني شارلي)، وقصته تتعلق باثنيْهما، وإنْ يوحَى بأنها عن عازف البيانو، غير أننا سنعرف أن ماهرشالا علي ممثلٌ مساعد، عندما يُمنح جائزة أفضل ممثل مساعد في "أوسكار".. لماذا؟