أسطورة مظفر و"صوت الخليج"

30 مايو 2022

جنازة مظفّر النواب في بغداد (21/5/2022/الأناضول)

+ الخط -

يمكن أن تتشكّل الأسطورة من وفرة الفراغات والمساحات البيضاء، في السير الناقصة حين يملؤها الخيال بكمٍّ وافر من الاحتمالات والأقاويل. هكذا تحوّل الشاعر العراقي، مظفر النواب، الذي رحل أخيراً، إلى أسطورة. هل كان يصوغ أسطورته وهو صامت ويتفرّج عليها مطمئناً؟ هل استمتع بتشكّلها وهو على قيد الحياة؟ حتى إنه لم يتدخل مرّة في نفي ما كان يشاع عنه أو إثباته، مثلاً، خبر موته أكثر من مرّة، ومتفرّقات عديدة نالت حتى حياته الخاصة، بل خصوصيات جسده الذي طاوله الحديث أيضاً. هل لهذا السبب، لم يسع إلى كتابة سيرته، ونحن نعرف القليل عن حياته الثريّة في شبابه التي تصل إلى الحدود القصوى للبطولات والخوارق، وذلك حين قضى جزءاً من عمره في النضال السياسي إلى درجة أنه حُكم عليه بالإعدام قبل أن يخفّف الحكم إلى المؤبّد، ليقضي شطراً من حياته في أكثر من سجن عراقي، ثم هروبه من أحدها بعد أن حفر نفقاً مع رفاقه، ثم اختباؤه مع الفلاحين في الأهوار العراقية، وقطعه آلاف الأميال مشياً من بلد إلى آخر، مراوغاً أكثر من حدود. هناك كذلك شعره الذي تقاسمته الذائقة بين كلماتٍ شعبيةٍ تكاد تكون مغلقة بسبب محليتها، وتحديداً لغة الجنوب العراقي. ورغم ذلك، فإنك تجد من يحفظها، مثل قصيدته المغنّاة "مرينا بيكم حمد" التي صارت من محفوظات أساسية في ذاكرة أجيال عربية مختلفة، وإنْ كانت بعض كلماتها صعبة الفهم. أتذكّر عالم اللسانيات المغربي، سعيد بنكراد، وهو يكررها كاملة من دون أن تعيقه معاني الكلمات ذات الخصوصية العراقية. ثم هناك قصائده الفصحى التي، يا للغرابة، لا علاقة ذوقية، أو حتى فنية، لها بقصائده الشعبية الرومانسية الشفافة والبليغة، بينما بدت قصائده السياسية ارتجاليةً ومدويةً، وبعض كلماتها سطحية مباشرة، بل أقرب إلى البذاءة. وهنا تتحرّك كذلك الأسطورة، حين يمكن أن نظن أن الديوانين (الشعبي والفصيح) كأنهما من إنتاج شاعرين مختلفين. لذلك يظل سرّ مظفر النواب حاضراً كذلك في هذا التجاذب على أكثر من حلبة قولية وفنية. لقد خصّب مخيلة الشباب بكلماتٍ يرغبون في سماعها عن اغتصاب فلسطين وسلبية الحكام العرب تجاه قضاياهم، كما خصّب الأغنية الشعبية بكلمات "تحولية" غاية في الشفافية والجمال.
بعد يومين من وفاة مظفر النواب، خصص برنامج "طربيات" في إذاعة صوت الخليج حلقة عن الشاعر الراحل، كانت بمثابة وثيقة مهمة، انكشفت من خلالها جوانب خفية من سيرة الراحل. يحظى البرنامج الذي يقدمه الإعلامي عبد السلام جاد الله بإقبال سماعي كبير، له في مسقط مستمعون كثر، حتى إنك لا تجد حلقة من دون أن يكون المتصل فيها من عُمان يطلب أغنية قديمة. وفي البرنامج فقرات تنشيطية للذهن، تقدم على هيئة أسئلة حول تفسير ما استغلق من كلماتٍ محليةٍ في مختلف لهجات العالم العربي، إلى جانب الكم المهم من المعلومات بشأن الفن القديم وبعث أصواتٍ من الماضي، ما كان لها أن تُذكر أو تجدّد لولا هذا البرنامج الجميل. وكانت الحلقة عن الراحل مظفر النواب ثرية، حين استضيف محبّون وأصدقاء للشاعر، أبرزهم المطرب العراقي سعدون جابر، الذي أطلعنا، بسبب قربه من مظفر، على تفاصيل دقيقة، سمعتُ عنها لأول مرة، مثل الحياة المتقشّفة التي كان يعيشها مظفر، حتى حين كان في دمشق، وإصراره على ألا يقبل الصدقات من أحد، حين عرضت عليه الحكومة السورية سكناً لائقاً فرفضه. وقد وصف سعدون الشقة البائسة لمظفر في دمشق. وقد عاش الشاعر متعففاً طوال حياته، شبه متخفٍّ وصامت (ربما لكي يخلق أسطورته بمهل؟).
شبّه سعدون جابر مظفر النواب، حرفياً، بالأسطورة التي لا تتكرّر، بل، في بعض لحظات عاطفته وهو يتحدّث، شبهه بجيفارا، ونحن نعرف الثقافة العالية التي يتمتع بها المطرب العراقي الحسّاس. وأتذكر هنا لقاء أجرته قناة الجزيرة معه، كان من أجمل اللقاءات الفنية، من خلاله انكشف لنا علوّ الكعب الثقافي والموسيقي لهذا الفنان وجماله الإنساني.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي