أزمة التعليم تراكم مشكلات التونسيين

01 أكتوبر 2022

تلميذات ومعلمة في مدرسة في أول أيام العام الدراسي في تونس العاصمة (15/9/2022/الأناضول)

+ الخط -

على إيقاع أزمة تلد أخرى، دخلت تونس ما يمكن تسميتها "مرحلة التدمير الاجتماعي المعمّم"، نتيجة صراع حادّ بين قطب اجتماعي يتربّع في أعلى هرم المجتمع، وهو الخصم والحكم، وقطب اجتماعي آخر يسكن القاع. ونتيجة هذا الصراع، وبروز تيار شعبوي سلطوي يؤسّس لحكمٍ فردي، تفاقمت فيه أزمات التونسيين، وتردّت أوضاعهم إلى الأسوأ، وثمّة مؤشّرات إلى حدوث سيناريوهات الانزلاق إلى غضب شامل قد يجرف البلاد والعباد نحو المجهول.

ولمناسبة عودة مليونين وثلاثمائة ألف من أبنائهم إلى المدارس، صُدم التونسيون بما أعلنه وزير التربية فتحي السلاوتي أن المدرسة التونسية التي ظلت تاريخيا واجتماعيا شرف الجمهورية أصبح يتسرّب منها سنويا أكثر من مائة ألف طالب وطالبة، وزاد الطين بلّة أن المنظومة التربوية تردّت اليوم إلى أزمة حادّة لم يسبق أن عرفتها منذ انطلاق أول مشروع إصلاحي للتعليم في تونس في 1958، أوكله بورقيبة للوزير والكاتب محمود المسعدي، فمائة ألف طالب، والكلام هنا للوزير، وهم ينقطعون عن الدراسة المبكّرة، يرتدّون إلى الأمية في بلد ربع ساكنيه أميون. وهذا من مؤشرات سلبية وإشكالات ومشكلات تشلّ المدرسة من جرّاء نقص الموارد البشرية، وتوقف عمليات الصيانة وتواصل التجاذبات بين سلطة الإشراف ونقابات التعليم، ولا سيما الجامعة العامة للتعليم الثانوي. وها هو واقع التربية والتعليم اليوم يُفسِد فرحة العودة المدرسية التي كانت عيدا يعيشه التونسيون، ينعش آمالهم في غد أفضل لهم ولأبنائهم. لا يختلف هذا الواقع الصادم للتعليم عن حال العدل والصحة والرياضة والثقافة والصناعة، بل عن حال البلاد إجمالا، حيث التراجع والانهيار مستمرّان، ولا أحد قادر على إيقاف النزيف، إذ ينشغل الماسك بكل السلطات بفلسفة القوانين وإصدار المراسيم وترذيل المتآمرين، من دون التدبّر في الأوضاع الكارثية لواقع المؤسّسة التربوية وغيرها. وها هي تداعيات هذا الواقع التربوي والاجتماعي إجمالا تُبرزها تمظهرات هذا الانسياق الخطير إلى العنف والمخدّرات والهجرة غير النظامية، إذ يغيب عن صانع القرار، ومن معه في أعلى هرم السلطة، أن التعليم والأمن المعرفي أهم الأولويات والرافدان الأساسيان للتنمية الشاملة والسيادة الوطنية، كما الأمن الغذائي والمائي والأمن القومي.

المدرسة التونسية التي ظلت تاريخيا واجتماعيا شرف الجمهورية أصبح يتسرّب منها سنويا أكثر من مائة ألف طالب وطالبة

مؤشّرات الأزمة التي استفحلت في المنظومة التربوية، والتي صدمت التونسيين وعمّقت همومهم، يقابلها إجماعهم على ضرورة إيلاء هذه الأزمة ما يجب من وضع سياسات وإمكانات وحلول لهذه المعضلة. ويعود هذا الإجماع إلى العمق الحضاري للبلاد التونسية التي أنجبت علماء وكتابا عظاما، مثل القدّيس أوغستين وابن خلدون وأبي القاسم الشابي والطاهر الحداد وخير الدين التونسي وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم. والمصلحون الرواد، وفي طليعتهم بورقيبة، جعلوا تاريخيا التعليم إحدى ركائز مشروعهم التنويري. وقد أدرجت دولة الاستقلال مسألة التربية والتعليم رافدا لبناء الدولة الوطنية، ولتجاوز مخلفات الاستعمار، وهو ما رسّخ في الذهنية التونسية المكانة السامية للمدرسة والمعلم.

وقد ضحّت العائلات التونسية تضحيات جساما لتمكين بناتها وأبنائها من أحسن ظروف التمدرس، فقد راهن الآباء المؤسّسون، وهم يرسمون معالم الدولة التونسية الفتية، على المدرسة والمعرفة، وعملوا على دمقرطة التعليم ونشر الثقافة الجماهيرية. ولذلك كان الإصلاح التربوي (1958)، أول مشاريع الإصلاح التي باشرتها دولة الاستقلال، وأنتج أجيالا قادرة وواعية قامت على عاتقها مؤسّسات الدولة المدنية الحديثة. وتواصلت مشاريع الإصلاح مع أحمد بن صالح، وتركّزت مع محمد الشرفي، ولكن إكراهات السياسة وتبدّل الخيارات والسياقات حالت دون تحقيق الأهداف الكبرى لهذه المشاريع، ولكن ذلك لم يمنع من أن تكون تونس قبل عشرين سنة من البلاد الرائدة تربويا. ويسجّل لكل من حكم تونس منذ الاستقلال حتى الثورة في 2011 صدق الإرادة في تجديد رسالة المدرسة واصلاح ما يجب إصلاحه، في ظل تحدّيات ظهور الثورة المعلوماتية والاقتصاد اللامادي وسيطرة المنحى الكمّي على البرامج التعليمية وبروز التعليم الخاص.

أزمة التعليم التي تراكم أزمات التونسيين سبب مركزي من أسباب الهدم الاجتماعي

مع قيام الثورة، تعطلت مساعي الإصلاح التربوي، وتشتتت الجهود، رغم محاولات فردية، ليصبح المشهد مختلفا، إذ يقول هؤلاء إن المدرسة لم تعد قطب التربية في مجتمع انتشرت فيه أعداد مهولة لجمعيات هامشية غابت فيها الرقابة. وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وما تنشرها من التحدّيات الأساسية للمدرسة، ناهيك عن تراجع دور العائلة أمام تحدّيات الأوضاع الاجتماعية، مثل غلاء المعيشة. وها هي مدرسة التونسيين اليوم لا تعلّم الناشئة أسباب فهم الآخر، وكيف يمكن أن يكونوا كائنات بشرية متوازنة، مع تراجع المكانة الاجتماعية للمدرّس، ناهيك عن ضعف دور هذه المدرسة في إعداد الناشئة لمجابهة مشكلات الحياة وتعقيداتها، عندما يصبحون شبابا وكهولا، وخصوصا مقتضيات المواطنة وشروطها. وفي المحصلة، لم يعد التعليم اليوم في تونس مصعدا اجتماعيا يبدّل حال الناس والعائلات، طالما أنه سيفضي إلى البطالة والفقر، وطالما أن الأجيال لم تعد تقف للمعلم تبجيلا وتكريما. لم تعد المدرسة تحقّق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين كل الذين يؤمونها من أبناء التونسيين وبناتهم، بل لعلها اليوم تعمّق الفوارق الاجتماعية بانتشار التعليم الخاص وتراجع المدرسة العمومية.

أخيرا، ستظلّ أزمة التعليم التي تراكم أزمات التونسيين اليوم سببا مركزيا من أسباب الهدم الاجتماعي الشامل الذي يعيشه بلدهم، أزمة تظل منسية، رغم خطورتها في خيارات رئيس الجمهورية وحكومته والساهرين على إدارة الشأن العام.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي