أزمات تونس وتأبيد الصمت

13 نوفمبر 2022

توسيون يتظاهرون في العاصمة ضد سوء الأوضاع والغلاء (15/10/2022/Getty)

+ الخط -

أمام تفاقم أزمات التونسيين من استمرار ندرة المواد الغذائية والمحروقات، وكذلك استمرار أزمة التعليم حيث أكثر من أربعمائة ألف طالب خارج المدارس، وصولاً إلى انهيار واضح في أغلب منظومات الإنتاج، وأهمها منظومة الأدوية والحليب، يتساءل التونسيون اليوم عن المسؤول أمامهم الذي حشرهم في هذا النفق المظلم، والذي لا يبدو له مخرج أو نقطة ضوء في القريب العاجل.

هل المسؤول إزاء هذا الحال أمام الشعب رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، الذي أقسم على دستور 2014 على حمل الأمانة، ثم انقلب عليه، وأصبح الناطق باسم "الشعب يريد"، ماسكاً بين يديه بكل الصلاحيات منذ 25 يوليو/ تموز 2021، وتحديداً مع صدور الأمر الرئاسي عدد 117، أو من خلال دستوره الجديد القائم على أن الرئيس هو الماسك كل السلطات والراسم السياسات العمومية والمحدّد لها، أم تعود المسؤولية إلى حكومته التي أرادها سعيّد مجرّد جهاز تنفيذي، لا يتجاوز دوره تطبيق سياسات الرئيس وتنفيذ الخيارات التي يكلفه بها. واللافت أن سعيّد ظل يرأس المجالس الوزارية، نافياً عن الرئيس والحكومة مسؤولية تردّي أوضاع التونسيين، فحسب منطوق الخطاب المتكرّر وتحليله الذي يواصل الرئيس نشره في لقاءات الحكومة مجتمعة، أو بوزراء منفردين، على غرار لقاءاته مع رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، أو وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، أو وزيرة العدل، ليلى جفال، وهم الوزراء الأكثر تردّداً على قصر قرطاج، فإن الجهات المسؤولة عن تفاقم الأزمات أمام الشعب هي أطراف أخرى تظلّ مجهولة، يكتفي سعيّد بتوجيه اتهامات إليها، من قبيل العمل على ضرب الدولة، والسعي إلى إيقاف مؤسّساتها وتعطيل مسارها، ولا أحد يعلم من هي هذه الأطراف التي لا يكشف عنها رئيس الجمهورية، ولماذا لا يعلن عنها، ولا متى يظل هذا الرئيس الماسك بكل الصلاحيات يتهم المجهول، من دون الإفصاح عن اسمه وهويته، مكتفياً في كل الحالات بمطالبة وزرائه بإيجاد الحلول وابتكار السبل والإجراءات اللازمة لتطويق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية، وصولاً إلى انحراف مهرجان قرطاج السينمائي عن أهدافه، حسب رأيه، ومطالبة وزيرة الثقافة بفتح تحقيق في الغرض.

 ظلّ قيس سعيّد يرأس المجالس الوزارية، نافياً عن الرئيس والحكومة مسؤولية تردّي أوضاع التونسيين

وأمام هذا المشهد الثابت والنمطي لخطاب سعيّد، وإزاء تراكم توزيع الاتهامات على هذه الأطراف المجهولة المتآمرة على البلاد والعباد، يتساءل التونسيون اليوم عن هوية هذه الأطراف، ولماذا يتهمها سعيّد من دون الإفصاح عنها، وتتشكّل قناعة لدى الجميع بأن سعيّد قد يكون يتعمّد سياسة الغموض، ليجعل الشعب "المريد" في حيرةٍ من أمره، فهو وكما أصبح شائعاً يتحدّث عن المفعول من دون ذكر الفاعل، أو كما يقال عند النحويين إنه يتحدث عن الفاعل الملزم بالفعل، ليظلّ هذا الفاعل هلامياً أو سوريالياً. أما الفعل الملزم به فهو افتعال الأزمات، وتنكيد معيشة الناس، فما يصدر عن لقاءات سعيّد بالحكومة مجتمعة، أو ببعض وزرائها منفردين، غالباً ما يتطرّق إلى نقاط محدّدة، من قبيل وجود مندسّين وانتهازيين في قائمة المترشّحين للانتخابات التشريعية (17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل)، ودحض الاتهامات الموجهة إليه بالتضييق على الحريات في الداخل والخارج، وأسباب تعطّل ما وعد به، كبناء بناء مستشفى القيروان مثلاً، وضرورة تحويل المسؤولية، مرة أخرى، إلى كل الأطراف التي أدّت إلى ذلك، وملف التلاعب بمنح الأراضي الدولية والتفريط فيها، فيما يحيل على الموضوع الذي يشغل سعيّد شخصياً، والمتعلق بإنشاء الشركات الأهلية والصعوبات التي تعترض ذلك، موضوع يعتبره سعيّد مصيرياً، وهو من أسس البناء القاعدي لمشروعه السياسي الذي يمضي فيه وحيداً، غير مكترثٍ بما يثار حوله من انتقادات وتشكيك في جدواه وواقعيته، وما حصل بشأنه من انهيار اجتماعي شامل. والملاحظ، وما يزيد الطين بلة، لقاءات المسؤول الأول عن تسيير شؤون الدولة بالحكومة وأعضائها غالباً ما تكون بعد وقوع الفأس على الرأس كما يقال، بعيداً عن الاستشراف واستباق هذه الأزمات، وفي ذلك تكريس لسياسة التنصّل من المسؤولية ليصل الأمر، في أغلب الأحيان، إلى تحميل هذه المسؤولية للحكومة الذي اختار هو رئيستها ووزراءها، وقد ظلت، منذ قيامها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حكومة تصريف أعمال لا حول لها ولا قوة، وهي مسؤولة أمام الرئيس، ولكنها لا تملك حق التصرّف المطلق، ولا أخذ المبادرات من دون العودة إليه، وذلك حسب اعتقاده وتبعاً لتعليماته.

سعيّد وأعضاء حكومته خارج دوائر الالتحام بواقع التونسيين المرهق، وبالتالي عدم الإلمام بأزماته المتواترة

الواضح اليوم أن مجمل الأزمات التي جعلت واقع التونسيين بائساً متردّياً يظل الانخرام الفادح في التوازنات المالية قاسماً مشتركاً بينها، تتعاطى معه رسمياً سلطة الإشراف، حيث رئيس فاقد الخبرة وحكومة لا تملك القدرة، بعجز فادح وبغياب كلي للتواصل والمصارحة وللتشخيص الموضوعي والواقعي والاعتراف أمام الجميع بأسباب تفاقم الأزمات، ومن ثمة تقديم البدائل والحلول وتسقيفها زمنياً، لتعي كل جهة مسؤولياتها والمهام المحمولة عليها، باتجاه الإنقاذ الشامل من الجميع قبل فوات الأوان.

تسعى قراءات عديدة إلى تفسير استمرار سياسة الصمت وغياب المصارحة بالجزم بأن سعيّد وأعضاء حكومته هم خارج دوائر الالتحام بواقع التونسيين المرهق، وبالتالي عدم الإلمام بأزماته المتواترة، وهذا ليس غريباً، إذ لطالما أعلن الرئيس سعيّد أنه يعيش في كوكب آخر. أما الحكومة الصامتة فقد تكون تواصل سياسة التخفّي وراء وهم شعبية الرئيس، والحال أن هذه الأخيرة قد تآكلت، ولعلها اضمحلت تماماً، أمام العجز عن تنفيذ الوعود، وغياب الإنجاز والقدرة على تغيير أحوال الناس. والواقع اليوم أن سياسة الصمت وعدم مصارحة الشعب بحقيقة أوضاع البلاد وعمق أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية أصبحت تجابه برفض صريح ومعلن من الأحزاب المقصية ومنظمات المجتمع المدني وأطراف خارجية عديدة، فقد طالب الاتحاد التونسي للشغل (النقابية المركزية) وائتلاف "صمود" وجبهة الخلاص وتجمّع الأحزاب الديمقراطية وغيرها، في أكثر من مناسبة، رئيس الجمهورية ورئيسة الحكومة بضرورة مصارحة الشعب بحقيقة الوضع، والكفّ عن تزييف الحقائق، والتوقف فوراً عن إلقاء المسؤولية على أطراف مجهولة من دون اقتراح الحلول وآليات الخروج من النفق. كما ترى هذه الجهات أن سياسة الصمت هذه هي من أشكال الهروب من تحمّل المسؤولية، ولا تزيد الأزمات إلا بمزيد من التردّي، خصوصاً أنه قد بدا التناقض يظهر إلى العلن بين خطاب الرئيس وخطاب الحكومة الصامت. ولعل اتفاقيات هذه الأخيرة مع صندوق النقد الدولي أكبر دليل على ذلك، ففي حين أعلنت رئيسة هذه المنظمة الدولية المانحة قبول الحكومة التونسية ما سمته البرنامج الإصلاحي، وخصوصاً رفع الدعم عن المحروقات وبعض المواد الأساسية والتفويت في أصول الدولة في المؤسسات العمومية وإيقاف التوظيف العمومي، وهي "إصلاحات" تتكتم عليها الحكومة، ويرفضها صراحة الطرف الاجتماعي (الاتحاد العام التونسي للشغل)، في حين أعلن سعيّد أن لا مجال للتفويت في المؤسّسات العمومية، فمن يصدّق التونسيون سعيّد أم حكومته؟ ومهما يكن من أمر، فإن سيناريوهات المستقبل القريب، رغم غموضها، والأرجح أنها ماضية بالتونسيين إلى حافّة الهاوية، فإن السؤال الذي يبقى حارقاً ويبقى جوابه غائباً في ظل سياسة الصمت واللّامصارحة، هذا السؤال الذي يردّده الجميع: من هو المسؤول عن أزمات تونس؟

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي