أرقام العمر وحروفه
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
هل نخاف من التقدّم في العمر؟ ربما لا يخطر هذا الأمر على البال كثيراً، لأنّ الإنسان ولد وهو يكبُر منذ يومه الأول. وبذلك يكون التقدّم في العمر لصيقاً بحياة الإنسان منذ الولادة. ربما سؤال الصحة هو الأكثر إلحاحاً من سؤال التقدّم في العمر. ولا علاقة للأمر بالرفاهية، بل قد يكون بعض الشقاء سبباً في توفير الصحة. كنّا نعيش في ما مضى وسط مسنّين تصل أعمارهم إلى تسعين عاماً بيسر. هناك من أقاربي مَن لم أعرفهم إلّا وهم "شيّابٌ"، كما نسمّي المسنين في لهجتنا العُمانية، ولم يبقَ أحد منهم. وكانوا من الكثرة بمكان، حتى إنّ كلّ ولد لا يرى أباه إلّا شايباً. أولادهم الذين يكبروننا قالوا عنهم الشيء نفسه، بأنّهم لم يروهم في حياتهم إلّا شيّاباً.
ما زلنا نجد في القرى العُمانية أمثال هؤلاء الشيّاب الذين لا يعرفهم أبناؤهم إلا في هذا العمر والهيئة، بخاصة الرجال الذين يعملون في إصلاح مياه الأفلاج وتوزيعها. لدينا عدد هائل في عُمان ممن يسمّون وكلاء الأفلاج، وذلك بسبب كثرة الأفلاج في عُمان التي لا يضاهيها سوى كثرة القلاع والحصون الأثرية. بل يمكن القول إنّ في كلّ قرية أكثر من فلج. في قريتي الصغيرة، سرور، مثلاً، ثلاثة أفلاج جارية، وقس عليه في معظم القرى العُمانية. ولكلّ فلج وكيل يقوم بشؤونه، أو أن يكون وكيل واحد لمجموعة من الأفلاج. وهنا سيزداد نشاطه اليومي من الصباح حتى المساء. والوكيل شخصٌ يعيش مع الماء، ويقطع يومه كلّ صباح بالمشي والحركة، ولا يأكل في طريقه سوى التمر، إذا استثنينا الوجبات الثلاث، وينام عادة مبكراً بسبب كدّه اليومي، ويستفيق مع صلاة الفجر، بعد ذلك يشقّ طريقه للعمل حتى المساء. تراه هزيلاً رغم لحيته البيضاء. وذاكرته وقّادة، لأنّه عوّدها على الحساب وحفظ الأسماء. مهنته تتمثل في توزيع أنصبة المياه المياه الجارية على الحقول، وهي عادة حقول نخل. لا قلق لديه يتعلق بالصحة، من قبيل القلق الذي يمكن أن يصيب حتى الطبيب المعالج، والعمر بالنسبة إليه مجرّد أرقام.
لذلك قيل إنّ العمر أرقام، وذلك لأنّ بالإمكان أن تجد شاباً عليل الصحة، وشيخاً عكس ذلك، إلى جانب استمتاعه بصحةٍ نفسيةٍ أعلى من الشاب، حين يأمن على حياته، وهذا لا يعني أنّ ذلك الشيخ حين كان شابّاً لم يمرّ بإحباطات ومطبّات وأزمات، لكنّ الشباب النفسي يأتي عادة مع تقدّم العمر وتراكم الخبرات واكتساب القناعة بالحاصل والمقدر.
... ماذا يشكّل العمر بالنسبة للكاتب؟ أعني بالكاتب هنا ذلك المسكون بتأليف الكتب في أيّ مجال يُحسنه. أرى أنّ العمر يتحوّل عند الكاتب من أرقام إلى حروف، فلا الأرقام، ولا حتى الصحة، لها علاقة عضوية بالكتابة. بالأمس القريب، حضرت تكريم الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء الكاتب محمد عيد العريمي، وهو رغم الإعاقة الكبيرة التي أصيب بها إثر حادث سير، استطاع أن يقطع مسافاتٍ مهمة في التأليف النوعي، كانت البداية مع روايته السيرية "مذاق الصبر" التي كانت بمثابة أوراق مذكرات لحياته ومأساته بعد الحادث. ثم تعاقبت مؤلفاته في القصة والرواية، ومن أهمها "بين الصحراء والماء"، ناهيك أنه أيضاً مترجم، ونتذكر ترجمته الرائعة لرواية جورج أورويل "مزرعة الحيوان". وقد أنجز ذلك كله بما تيسر من عضل في يده يستطيع أن يمسك به القلم، ليس بأصابعه كما نفعل، إنما بواسطة قفّاز صغير يدخله إلى راحته، ويخرج من هذا القفاز الصغير قلما هو الذي كتب كل هذه الوصفات الرائعة.
ربما سؤال الصحة والعمر إنساني عام، وليس من المهم ربطه بالكاتب. ولأن العمر بالنسبة للكاتب حروف، يأتي دور الكلمات في اختيار أي حروفٍ من الممكن تشكيلها. بالنسبة للكاتب، يأتي القلق من هذه الزاوية، حين لم ينجز مشاريعه وأحلامه بعد، وهذا قلقٌ صحي، بخاصة لدى أولئك الكتّاب المسكونين بالإبداع، أي بالبحث عن جديد غير مكرور يجدّدون به شبابهم الكتابي، ويحتاج هذا الأمر إلى انقطاع للقراءة وعزلة وصبر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية