أبعد من عرار
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
في بداية التسعينيات في مسقط، وفي بهو فندق كراون بلازا، الذي يشبه هيكل سفينة راسية منذ زمن طويل على بحر عُمان، كان الشاعران سعدي يوسف وأمجد ناصر يجلسان، حين جاء رجل عراقي وفي يده صحن يحتوي على وجبة عراقية (من مكوناتها الدجاج والخبر والزعتر) أعدّتها عائلته خصيصاً للشاعر، جاء بها قاصداً أن يعطيها لسعدي عربون محبة، وهو لا يعرفه من قبل. وكان الرجل العراقي يرتدي ملابس عُمانية شعبية (دشداشة بيضاء وكوفية)، توحي بأن لديه كذلك الجنسية العُمانية. شكره سعدي، وأخذ منه الصحن، وجعله في متناول جميع الجالسين. ربما انصدم الرجل قليلاً، لأنه أراد أن يخصّ شاعره العراقي بالوجبة. وبطريقة من يواري غضبه، ويكيل المديح بالإقلال من شأن الآخرين، توجّه بالحديث إلى أمجد ناصر، قائلاً إن في العراق عمالقة من الشعراء، وبدأ يعدّد محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ووصولاً إلى سعدي يوسف. كان الرجل فضولياً، وقد استخدم صحن طعامه مبرّراً للجلوس مع الجالسين، ثم شرع يكرّر عبارته أن في العراق شعراء كباراً، وشرع مرة أخرى يعدّهم، وهو ينظر إلى أمجد، ثم ختم حديثه قائلاً: ليس لديكم شعراء في الأردن؟ فلم يحر أمجد ناصر جواباً، حين قال له: لدينا الشاعر عرار. انسحب العراقي بعد ذلك، فتنفس أمجد الصعداء قائلاً: رجل استفزازي... فالتفت إلينا يسأل إن كان أحد منا يعرفه، فأجبناه، ومنا سعدي يوسف، بالنفي.
منصفٌ أن تختار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار) رمزاً عربياً للثقافة لعام 2022. بالتزامن مع اختيار مسقط رأس الشاعر، مدينة إربد، عاصمة للثقافة العربية. واختياره كما صرح الروائي الأردني يحيى القيسي، في برنامج ثقافي في الإذاعة العُمانية، انتصار للمهمشين. وبالرجوع إلى السيرة الشعرية التي كانت تعكس جزءاً من حياة الشاعر، نجد أنه أمضى فترة من حياته يجالس الغجر، الفئة الاجتماعية المهمّشة والمنبوذة، كان الشاعر، بروحه الحساسة العالية، يجد فيهم وجهاً من وجوه النقاء البشري، وانفتاح الشاعر عرار على هذه الفئة في مضمونه يدخل في سياق البحث عن روحٍ جديدةٍ لقول الشعر، وتأثيث قاموسه بالجديد والمختلف، غير ذلك القاموس الشعري المعروف في زمنه، والذي ينحو كثيرٌ منه نحو الحماسة والشعارات، حيث تتكرّر في قاموسه الشعري، ضمن عبارات جديدة، عبارة "الخرابيش"، ويقصد بها خيام الزطّ أو النَّوَر، لا بد أنه واجد بجانب تلك الفئة من الناس، إلى جانب البسطاء والفلاحين الذي ذكرهم في أشعاره، استعارات وكلمات جديدة يرصع ويشكل بها طين قاموسه الشعري، بل يبثّ فيها أيضاً رؤيته الفلسفية في الحياة، حيث يمثل البسطاء، وفئة النَّوَر منهم، أحد معاني الحياة بفطرتها خارج حسابات السلطة والمناصب اللماعة، إلى جانب أنها تشكّل، بالنسبة إليه، هروباً داخل المكان، وإدانة للمجتمع البدوي المتصلب الذي كان يعيش فيه:
بين الخرابيش لا عبدٌ ولا أمةٌ/ ولا أرقّاء في أزياء أحرار
ولا جناة ولا أرض يضرجها/ دم زكيٌّ ولا أخاذ بالثار
الكل زطُّ مساواة محققة/ تنفي الفوارق بين الجار والجار
كانت هذه الفئة تشكل عزاء عرار الوحيد، ونافدةً من نوافذ الحرية والبساطة والنقاء البشري الأصيل. وكانت قصائده عنهم، وكذلك جلساته المسائية في قلب مضاربهم، حيث كان يشاركهم الراح والأتراح، رغم مكانته الاجتماعية وقربه من الملك عبد الله الأول، فإلى جانب أنه معلم في بدايات حياته، تقلد مناصب رفيعة، منها منصب مدعٍ عام، ثم كان رئيساً للتشريفات في ديوان الملك. وكان يترك ذلك كله جانباً في حضرة الزطّ والنَّوَر، أو "الآخذين من الحياة بصفوها"، حسب وصفه الشعري البليغ، ضمن الأبيات التالية:
الآخذين من الحياة بصفوها/ والتاركين لغيرهم ما يكدر
" نَوَرٌ" نسميهم ونحن في غرفهم/ منهم وفي عين الحقيقة "أنور"
أتقن عرار كذلك التركية والفارسية التي ترجم منها إلى العربية قصائد للشاعر عمر الخيام، وقد حوّلها، وربما هذا يحدث لأول مرة، إلى نثر في صياغتها العربية.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية