"هيومن رايتس ووتش" وإسرائيل .. ماذا بعد؟
بحلول سبتمبر/ أيلول المقبل، يكون قد مرّ عشرون عاماً على مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية، الذي أعاد، بفضل نضالية الانتفاضة الفلسطينية الثانية وجاذبيتها، وقوة دفع المنظمات غير الحكومية، وفي المقدمة حركات مناهضة العولمة الرأسمالية/ الليبرالية الجديدة، أعاد الاعتبار إلى حقيقة أن الصهيونية عنصرية. وبحق، كان "ديربان 2001" في المحصلة الختامية، وعلى الرغم مما شهده من صراعات دولية، ضربة معاكسة ضد خطيئة وجريمة عام 1991، أي إلغاء الأمم المتحدة قرار جمعيتها العامة رقم 3379 في 1975 الذي أدان الصهيونية بوصفها من أشكال العنصرية. واليوم، على مدى الأسابيع التي تفصلنا عن مناسبة إحياء الأمم المتحدة الأكبر والأهم لمؤتمر ديربان، يستحق الاهتمام والتفكير على نحو خاص تقرير كبرى المنظمات الحقوقية الأميركية، هيومن رايتس واتش، وصدر أخيراً، وحمل عنوان نسخته الإنكليزية (213 صفحة) وصف "الأبارتهايد"، ومع ترجمة إلى العربية تحت عنوان: "تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد".
يتمنّى المرء أن يأخذ هذا التقرير/ الوثيقة الدولية اهتماماً ونقاشاً من مناصري الشعب الفلسطيني، يليق بأهميته وسياقه وتوقيته. فقد تنبهت صحيفة جيروزاليم بوست، من جانبها وبموقعها في صفوف اليمين الإسرائيلي، إلى أنها المرّة الأولى في تاريخ المنظمة الحقوقية الأميركية (43 سنة) يُوجَّه الاتهام إلى إسرائيل بجريمة الأبارتهايد. إلا أن هذا الحرج يتجاوز تل أبيب إلى سلطات ومؤسسات رسمية عربية. وفي الظن أن الصمت العربي الرسمي إزاء التقرير تتعدّد أسبابه. فالحرج هنا لا يتعلق وحسب بأن السلطات الاستبدادية في الدول العربية في حالة عداء مع حقوق الإنسان وتقارير (وبيانات) منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها بشأن ما ترتكبه من جرائم وانتهاكات ضد مواطنيها، ولطالما ظلت تغازل مشاعر الجماهير عندها باتهام المنظمة الحقوقية الأميركية بأنها "تخدم أهداف إسرائيل". بل يضاف إلى هذا أن التقرير، في لغته واستخلاصاته وتوصياته، ما يحرج المطبّعين والمتعايشين العرب مع عنصرية إسرائيل قدامى وجدداً، سواء من أسهموا في تمرير إلغاء القرار الأممي بعنصرية الصهيونية قبل ثلاثين عاماً، أو تبرأوا من هذا الإلغاء حينها. وربما كانت السلطة الفلسطينية، برئيسها ورئيس وزرائها ووزارة خارجيتها، هي الوحيدة في النطاق الرسمي العربي التي أصدرت رد فعل على التقرير إلى حينه. وصحيحٌ أنها رحبت به، لكنها تجاهلت التوصيات الموجهة إليها بوقف جميع أشكال التنسيق الأمني مع السلطات الإسرائيلية، وبإدراج الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الفصل العنصري والاضطهاد، في القانون الجنائي الوطني الفلسطيني. وهنا يحق التساؤل: هل لدى السلطة الفلسطينية، بما هو معلوم من أحوالها، تصور عن كيفية الاستفادة من مثل هذا التقرير والبناء عليه؟
إنها المرّة الأولى في تاريخ المنظمة الحقوقية الأميركية يُوجَّه الاتهام إلى إسرائيل بجريمة الأبارتهايد
لإدراك أهمية هذا التقرير، يتعين التذكير بتطورين مترابطين على المسرح الدولي. فمكتب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أعلن في مارس/ آذار الماضي فتح تحقيق بشأن الأوضاع في فلسطين. وهذا بعد شهر من قرار المحكمة أن ولايتها القضائية تشمل الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة في الأراضي الفلسطينية بكاملها، بما في ذلك القدس الشرقية، سواء المتعلقة بالفصل العنصري أو الاضطهاد. ويعكس نص تقرير "هيومن رايتس وواتش"، وتوصياته الموجهة إلى المحكمة الدولية والأمم المتحدة، طموحاً بأن يدرج هذا الجهد/ التقرير في صلب (وسياق) محاكمة عنصرية إسرائيل سياسات ومؤسسات وقوانين وممارسات ومسؤوليها وعقابهم، إلا أن هذه العملية التي انطلقت متأخرةً متباطئةً، وأصبح يعزّزها تقرير كبرى المنظمة الحقوقية الأميركية، تستأهل التفكير في بناء حركة إسنادٍ عالميةٍ تقوم أساساً على تحالفات بين مكونات المجتمع المدني في أنحاء الكرة الأرضية، وبما في ذلك تيارات داخل الحقوقيين ومناهضي العولمة.
تنفتح قراءة النص الكامل للتقرير على جملة ملاحظات، يمكن البناء عليها في مناصرة الشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، إنه يعترف بوحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاضطهاد والفصل والتمييز العنصري ونتائجه، سواء أكان في الضفة الغربية والقدس أو قطاع غزة أو فلسطين المحتلة عام 1948، أو حتى ما يزيد على خمسة ملايين خارج كل أرض فلسطين التاريخية. ويستخلص التقرير أن ما يواجهه الفلسطينيون ليس مجرّد احتلال تعسفي وحسب، بل تمييز وفصل واضطهاد على أسس وبدوافع وسياسات ممنهجة عنصرية، وإن لم يغفل مسؤولية سلطة الاحتلال عن الأوضاع اللاإنسانية للفلسطينيين، ولكونهم فلسطينيين في قطاع غزة، تماماً كما في الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948.
يعترف تقرير "هيومن رايتس ووتش" بوحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاضطهاد والتمييز العنصري ونتائجه
وعلاوة على جهد فريقه المميز في جمع شهادات وأقوال من 40 مقابلة خاصة، وملاحظات وافرة خلال زيارات ميدانية متعدّدة، ودراسات حالة مهمة لمحافظة سلفيت من الضفة الغربية وقرية كفر عقب في محيط القدس الشرقية المحتلة ومدينة الناصرة في فلسطين 48، يستند التقرير إلى تراث يتضح كم أصبح مهماً ووازناً من عمل منظمات المجتمع المدني والحقوقي والمناهض للاحتلال في إسرائيل، فضلاً أيضاً عما أصبح عليه تراكم أعمال (ونتائج) نظيرتها الفلسطينية.
ويلفت النظر أيضاً هذا التأسيس المهم للجرائم العنصرية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، انطلاقاً من حقل القانون الدولي، بما في ذلك إحالات تاريخية على محاكمات النازية (نورمبرغ)، وصولاً إلى ميثاق نظام روما للمحاكمة الدولية 1998 وما تلاه. ومع هذا، لا يستخدم التقرير مطلقاً كلمة أو مصطلح "الصهيونية"، كأنه يتجنب حرج استخدامها بالسلب في سياق ثقافي استعماري أميركي غربي، ما زال يعتبرها زوراً "حركة تحرّر لليهود". وعلى النقيض من هذا التجنب والحرج، التقرير حافل بإحالاتٍ سلبيةٍ تدين عنصرية النصوص القانونية المؤسسة لإسرائيل وقادة الحركة الصهيونية، واعتباراً من عام 1948، وفي مقدمتهم بن غوريون. وقد أنعش التقرير الذاكرة العالمية، وليس ذاكرة الضحايا الفلسطينيين والعرب فقط، باستشهادات من أقوالهم وأفعالهم العنصرية. والنص في ذلك لا يفرق عن حق بين رموز "الحمائم" و"الصقور" الإسرائيليين منذ 73 عاماً، ويضع تحت الضوء الدور العنصري لمؤسسات صهيونية لها سمعة تاريخية سابقة لتأسيس الدولة العبرية، وما زالت قائمة وفاعلة، كالوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية والصندوق القومي اليهودي. وقد شخّص بالأمثلة المعيشة أمس واليوم استمرار تورّطها في السياسات والممارسات التمييزية العنصرية ضد الفلسطينيين، وعلى كامل أرض فلسطين التاريخية.
منظمة حقوقية أميركية كبرى تقدم خطاباً أكثر تقدّماً وتجاوزاً لبؤس الخطاب العربي الرسمي عن إسرائيل وعنصريتها
ينتهى التقرير بـ49 توصية، يتوجّه عديد منها إلى السلطات الإسرائيلية، ولا ينتظر بالطبع أن تنفذ واحدة منها، لكن تلك الموجّهة إلى المجتمع الدولي، وخصوصاً إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (ثمانية لكل منهما) تستحق الانتباه. فتقرير المنظمة الحقوقية الأميركية، نصاً وتوصيات، يعارض بوضوح "صفقة القرن" الترامبية واعتراف واشنطن بالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها. كذلك يضع الإدارة الأميركية الجديدة، برئاسة بايدن، أمام أكثر من اختبار، بتوصيته إصدار الرئيس بايدن بياناً رسمياً يعرب عن القلق بشأن ارتكاب السلطات الإسرائيلية جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد ضد الفلسطينيين، فضلاً عن المناداة بربط المساعدات العسكرية والأمنية والاقتصادية باتخاذ السلطات الإسرائيلية خطواتٍ ملموسة، ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء ارتكاب هذه الجرائم العنصرية ضد الإنسانية، فضلاً عن المطالبة بتفعيل عقوبات ضد إسرائيل ومسؤوليها. وفي ذلك تمايز طالما تمت المناداة به بين واشنطن الرسمية، ومعها المجمع العسكري الصناعي ومصالح الشركات الكبرى، و"أميركا أخرى" تجتهد للسير في اتجاه معاكس للتراث الاستعماري الإمبريالي.. والعنصري أيضاً.
قيل الكثير في أن للأدبيات الحقوقية لغتها وأسقفها التي تختلف عن غيرها، ولكن يتعين الوعي هنا بأن منظمة حقوقية أميركية كبرى تقدم خطاباً أكثر تقدّماً وتجاوزاً لبؤس الخطاب العربي الرسمي اليوم عن إسرائيل وعنصريتها. كذلك يتعين أيضاً الوعي بهذا الاقتراب الحذر الذي يعكسه تقرير "هيومن رايتس ووتش" الجديد وتوصياته من الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل. هو بالفعل اقترابٌ حذر، كما هو حال تجنب التصريح بـ"الصهيونية"، وكذا التردّد والارتباك في الدعوة، بوضوح وبحسم، إلى إنفاذ حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وأيضاً النأي عن المطالبة بوقف الهجرة الصهيونية اليهودية أو تقييدها. لكن بالقطع، إن شيئاً ما يجري في التيار الرئيسي بين منظمات حقوق الإنسان الأميركية والعالمية الكبرى تجاه حقوق الشعب الفلسطيني وعنصرية المشروع الصهيوني كما تترجمه إسرائيل، ويجب التفكير والعمل من أجل استثماره والبناء عليه. وفي القلب والعين من هذا، سياقا المحكمة الدولية وإحياء عشرينية "ديربان". والمهمة ليست سهلة، في ظل غلبة الهجوم المضاد وشراسته على انتفاضات الشعوب وثوراتها في منطقتنا (الربيع العربي)، وما يصحبه من ضرب المجتمع المدني وتقويضه عندنا. لكنها تستحق التفكير والمحاولة.