"فتح" بين التحرير والتشبيح
تشهد مدن الضفة الغربية تحرّكات احتجاجية مدنية وسياسية، منذ الإعلان عن مقتل الناشط السياسي، نزار بنات، تحت التعذيب في سجون السلطة، رفضاً وتنديداً بسلوك الأجهزة الأمنية والسلطوية عموماً. على الرغم من فداحة الجريمة المرتكبة، إلا أن الغضب الشعبي الفلسطيني من مؤسسات وقيادات السلطة واسع وعريض، وربما يصحّ وصفه بأنه شامل، إذ يطاول جميع القضايا والملفات التي يفترض بالسلطة تناولها ومعالجتها إدارياً وسياسياً وخدمياً، فالفشل السلطوي ظاهر وبَيّن، حتى يكاد الضرير يبصره، ولنا في صفقة اللقاحات المضادة لفيروس كورونا خير مثال على ذلك. ولكن الفشل الأكبر ومصدر الغضب الشعبي الأعظم يعود إلى توالي السقطات السلطوية الفادحة وطنياً وسياسياً، من تنامي المسلكيات والممارسات السلطوية القمعية تجاه معارضيها، إلى عجزها عن مواكبة (بل يمكن القول تعمّدها تجاهل) الانتفاضة أو الهبّة الفلسطينية أخيراً، على الرغم من تصاعدها اجتماعياً وسياسياً، مروراً بإصرارها على التمسّك بحل الدولتين، والمضي بالمسار التفاوضي وسيلة وحيدة وواحدة، على الرغم من ثبوت فشله وعجزه عن استعادة جميع حقوق الفلسطينيين المشروعة.
تتعدد أسباب الغضب والاحتقان الشعبي على أداء مؤسسات السلطة وقياداتها، الأمر الذي يفترض بالأخيرة الحذر والتمعن بجميع المصائب المسؤولة عنها، بدلاً من خطاب التشكيك في النيات الشعبية. لكن واستناداً إلى تجربة المنطقة الزاخرة في السنوات الأخيرة، نجد أن حالة النكران السلطوية فلسطينياً لا تختلف عن نظريتها في أي نظام رسمي عربي، ثار واحتج شعبه على فشله المتلاحق داخلياً وخارجياً، كما في العراق والجزائر والسودان ولبنان أخيراً، وسورية والبحرين ومصر واليمن وليبيا وتونس سابقاً، فالطبقة الحاكمة معنيةٌ بالحفاظ على مصالحها الذاتية المتناقضة مع مصالح الشعوب حكماً، ما يفرض عليها التهرّب من الواقع والتنصّل من المسؤولية، بل وإنكار الشعب وحقوقه، بما فيها حقّه في الاحتجاج والتظاهر، وصولاً إلى تكذيب صور وفيديوهات وشواهد القمع والسحل والقتل الممارسة بحقّ المحتجين والمنتفضين والمعارضين عموماً.
لم تنكر السلطة الفلسطينية مقتل نزار بنات داخل سجونها، لكنها حاولت التنصّل من مسؤوليتها عبر إخفاء أسباب وفاته الحقيقية
لم تنكر السلطة الفلسطينية مقتل نزار بنات داخل سجونها، لكنها حاولت التنصّل من مسؤوليتها عبر إخفاء أسباب وفاته الحقيقية، كي توحي للمتابع بأنه قد توفّي نتيجة ظرف صحي عارض، من دون أي مسؤولية أمنية عن ذلك. وهو ما يزيد من فقدان الثقة بالسلطة وأجهزتها، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية والسياسية من ناحية أولى. ويعزّز الشكوك بشأن تعمّد العنف والقتل من الأجهزة الأمنية من ناحية ثانية، وكأنها رسالة تحذير، بل تهديد، تهدف إلى إرهاب المجتمع وتخويفه من مصير كلّ من يجرؤ وينقد السلطة وقياداتها! بناء على ذلك كله، أي على الأسباب السياسية والاجتماعية والأمنية، كان لا بد من التظاهر والاحتجاج، بهدف الضغط من أجل إحداث تغيير جذري في هياكل السلطة ودورها وبنيتها وقيادتها، لتمتين الجبهة الداخلية وتعزيز قدرة الشارع على مواجهة حملات التطهير العرقي والفصل العنصري الصهيونية، في سياق النضال التحرري الفلسطيني الشامل، حيث أضحت السلطة للأسف من أهم أسباب تراجع مساهمة مناطق الضفة الغربية في مشروع التحرّر الشامل والكامل.
ما هو غير طبيعي، وإنْ كان متوقعاً، مشاهدة مظاهر العنف السلطوي (بشقيه الرسمي وغير الرسمي) في التصدّي للحشود المحتجة، ورمي المحتجّين بعشرات التهم المشكّكة في انتمائهم الوطني، واعتبارهم ينفّذون أجندات خارجية. طبعاً لا يمكن منع أنصار المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، أو حركة حماس وربما ناصر القدوة، عن الانخراط في هذه الاحتجاجات (رغم معارضة صاحب هذا الرأي لهم أيضاً)، بل سوف نستغرب عدم انخراطهم، إلا في حال عدم امتلاكهم كتلة بشرية داعمة لهم، ففي منطق التنافس السياسي الداخلي يحق لأي طرفٍ سياسيٍّ استثمار الفشل الحكومي والرسمي، عبر حشد أنصاره وتقديم رؤيته المغايرة (على فرض امتلاكه رؤية مغايرة). وبالتالي، لا تقلّل محاولة أي طرف استثمار هذه الاحتجاجات واستغلالها من بعدها الوطني، كما لا يقلل من شرعيتها، وبالتالي لا يجوز ولا يصح قبول هذا الخطاب السلطوي أو السكوت عنه.
نشهد تحول "فتح" من حركة تحرّر وطني تقود النضال الفلسطيني المسلح إلى حزب سلطوي
وعليه، لم تخرج تجربة كل من السلطتين الفلسطينيتين (شهدنا السلوك السلطوي نفسه من حركة حماس إبان احتجاجات "بدنا نعيش") مع الحركات الاحتجاجية الشعبية، عن التي حكمت ممارسات مجمل النظم الرسمية العربية التي سبقتها في التصدّي للحركات الاحتجاجية والرسمية، مع ملاحظة الفرق الكبير في الإمكانات والقدرات لصالح النظام الرسمي العربي طبعاً، وكأننا أمام كتالوغ واحد يحدّد خطوات النظم في قمع الشعوب وإثارة الحروب الداخلية، بدلاً من محاسبة المسؤولين من أعلى الهرم إلى أسفله، وتقبل الرأي الشعبي واحترامه والاعتراف بالأخطاء ومعالجتها في أسرع وقت ممكن. كما لم يخرج خطاب حركة فتح وسلوكها عن ذاك المتبع في الأحزاب العربية القابضة على السلطة للأسف، فجميع بيانات الحركة ذات مضمون يهدّد المحتجّين ويتهمهم بتدمير المنجزات الوطنية! لتتجاهل الحركة مسؤوليتها ومسؤولية قيادتها، سيما قيادة السلطة، عن تدمير المنجزات الوطنية، فضلاً عن غرقها في الأوهام المتضخمة بحديثها عن منجزات وطنية! وكأنها قد نسيت أو تناست أن شعب فلسطين وأرضها يخضعان للسيطرة الصهيونية التي تمارس حملات التطهير العرقي والفصل العنصري تجاه الفلسطينيين، وهو ما يدعو صاحب هذه المقالة إلى تحذير كوادر حركة فتح الوطنية من تبعات هذا الخطاب وهذه الممارسة.
نعم، تعود قيادة حركة فتح الجسم السياسي الفلسطيني إلى ستينيات القرن المنصرم، حيث تعاقبت مراحل وتقلباتٌ كثيرة في أثناء قيادتها له، من مسار التحرّر الوطني إلى مسار السلام (الاستسلام) مروراً بمرحلة المقاومة الشعبية وغيرها من التقلبات والتحولات، الأمر الذي جعلنا نشهد تحول "فتح" من حركة تحرّر وطني تقود النضال الفلسطيني المسلح إلى حزب سلطوي يقود العمل السياسي والتفاوضي، ويدير الشؤون اليومية (بغض النظر عن تقييمها). بيد أننا اليوم أمام مرحلةٍ خطيرة فلسطينياً وفتحاوياً، نظراً إلى احتمالاتها المتناقضة، إذ قد تحقق الاحتجاجات الشعبية في مناطق الضفة الغربية أولاً، ومظاهر المقاومة الشعبية المتصاعدة في غالبية أرض فلسطين التاريخية ثانياً، نجاح التيار الوطني داخل حركة فتح في استعادة دور الحركة الوطني المتطابق مع اسم الحركة؛ حركة التحرّر الوطني الفلسطيني؛ على الرغم استبعاد الكاتب ذلك. أو قد تُحدث تحوّلاً جديداً في نهج الحركة وطبيعتها، بعد تحولها من حركة تحرر إلى حزب سلطوي، وذلك بتحوّلها من حزب سلطوي إلى تيار تشبيحي لا أكثر؛ وهو ما يُخشى منه بشدة؛ يلفظ جميع كوادره الوطنية.