"عبّيلي الجعبة خرطوش"
"عبّيلي الجعبة خرطوش وناولني هالبارودة/ بيكلفني خمس قروش البيقرّب صوب حدودي". أغانٍ كاذبة كثيرة يمكن أن نسمعها، لكنّ هذه أكذبها، فهي تشير إلى الجيوش العربية، كما أغانٍ أخرى كثيرة لا تصلح لأكثر من ضخّ الحماس في نفوس الراغبين بالتطوّع في الكليات العسكرية الذين يتم قبولهم أساسا بالواسطة. الجيش في جميع بلدان العالم مؤسسة من مؤسسات الدولة، والعسكرية مهنة، بسبب طبيعتها الخطرة يكون راتب صاحبها أعلى من باقي الموظفين. عندنا فقط تعتبر هذه المؤسسة ذات طابع أسطوري مقدّس لا يجوز الاقتراب منها، علماً أنّه لا مآثر تُذكر قد سجّلت باسمها في التاريخ، سوى بعض الانتصارات الكاذبة التي لا يُثبِت حدوثَها على الأرض شيء ملموس. أما الهزائم فيمكنك التحدّث عن الدلائل الملموسة عليها بدون حرج، وليس من دولةٍ عربيةٍ تحدّ دولة أجنبية إلا وفيها جزءٌ أو عدة أجزاء محتلة، وكلما خاضت هذه الجيوش حرباً من أجلها خسرت أجزاء جديدة. مع ذلك، تجد من يتحدّث عن هذه الهزائم أنّها انتصارات، وما يبكي ويضحك في آن أنّ هناك من تعامل مع فضيحة حزيران (يونيو) 1967 على أنّها انتصار، لأنّ العدو لم يحقق أهدافه فيها.
تدخّلت هذه الجيوش فقط في شؤون دول عربية أخرى مجاورة، عادةً ما تكون أضعف منها، ولم يكن مرحّباً بها أبداً في تلك البلدان، وحتى هناك حقّقت هذه الجيوش انتصاراتٍ صغيرة، لكنّها سرعان ما انسحبت من المشهد مهزومةً، تحت تأثير ضغط أو تدخل خارجي. لا شيء ينقصها، فالقسم الأكبر من ميزانيات هذه الدول يذهب إليها، والأسلحة تتدفق إليها بشكلٍ لا ينقطع. لديها جنود عندما أتيحت الفرصة لهم أبدوا شجاعةً نادرة، ومختصون مهرة، أبدوا براعتهم في مواقف كثيرة، وفيها ضباط وطنيون، وكلّ عناصر القوة لجيوش تريد أن تحرز انتصاراً، فما هي المشكلة إذاً؟
هناك عدة مشكلات تعترض تحقيق أيّ إنجازات عسكرية تستحق الذكر. أولها الفساد الذي ينخر هذه الجيوش، حيث الرتبة مصدر دخل بالنسبة للضابط في أحيانٍ كثيرة، من دون الدخول في التفاصيل التي يعرفها الجميع، بدءاً من الرِشا التي يقبضها الضابط، وليس انتهاء باستخدام الجنود خدما وعمّال بناء، وغير ذلك في خدمة الضابط. ونحن هنا نتحدّث عن ضبّاط صغار، وكلما كبرت الرتبة زادت جرعة الفساد. المشكلة الثانية عدم قدرة هذه الجيوش على اتخاذ قراراتٍ مستقلة في ما يخص حركتها خارج حدودها، فكلّ حربٍ يمكن أن يشنها أي جيش منها تحتاج موافقات عليا من قوى دولية عظمى، لا تسمح له بأكثر من انتصارات محدودة وملتبسة للاستخدام الداخلي. لكنّ هذه القوى لا تتدخل في سلوكه داخل بلده، لذلك نراه في الداخل يحقق الإنجازات كمؤسسة قمعية بنجاح منقطع النظير. ولكن المشكلة الأهم هي تعطّش هذه الجيوش للسلطة، فهي تقريباً في كلّ الدول العربية تمسك بزمام السلطة، أو بخناق من هم في السلطة إن كانوا من المدنيين، ولا يعترفون بأيّ نتائج انتخابية. ولهذا ترى الجيش يأتي الى السلطة، ويبقى كلّ الوقت منشغلاً في الاحتفاظ بها، ولا تعني له الحدود سوى مادّة لرفع الأدرينالين لدى الجماهير، بفعل الحماس الفائض على وقع الأغنيات الوطنية. انتهت تجربة الديكتاتوريات العسكرية في أوروبا الغربية، وتكاد تنتهي في أميركا اللاتينية، وفي طريقها إلى هناك في كلّ من آسيا وأفريقيا، لكنّها عندنا عصيّة على الرحيل. وإن رحل ديكتاتور عسكري من الباب بفعل ثورة أو انتفاضة، سرعان ما يعود ديكتاتور عسكري جديد من النافذة بواسطة انقلاب. ولا تكاد الحكومات المدنية الوليدة ترى النور حتى تستيقظ على البلاغ رقم واحد.
الجيوش عندنا، باختصار، لم تعد جيوشاً. لقد أصبحت أشبه بأحزاب مسلحة لا تتخيّل نفسها من دون سلطة مطلقة، عبر جنازير الدبابات، ويمكن لأغنية "عبّيلي الجعبة خرطوش وناولني هالبارودة/ بيكلفني خمس قروش البيقرّب صوب حدودي" أن تكون صادقة إذا كان المقصود بالحدود حدود السلطة، وليست حدود البلد.