عمر الشريف: الحياة حتى الرمق الأخير

محمد جابر

avata
محمد جابر
20 يوليو 2015
+ الخط -
في حوار أجراه عبد الحليم حافظ مع عمر الشريف في فيينا عام 1968 لصالح الإذاعة المصرية، سألَ حليم "في العالم الذي تعيش فيه الآن.. لسه حاسس إنّك غريب؟". كان قد مر حينها ستّ سنوات على مغادرة عمر الشريف لمصر، مرتحلاً بين عدد من الدول، ومقدماً عدداً من الأفلام والأدوار والتجارب العالمية. رغم ذلك فقد أجاب سريعاً "والله لغاية دلوقتي حاسس إني برضه غريب".

يشكو عمر من الوحدة، والبعد، وقلة الأصدقاء، "مليش بيت ومليش أصحاب الحقيقة هنا، في مصر كان أسهل حاجة إن الواحد يلاقي أصدقاء، "، فيسأله حليم ــ في محاولة لحديث ميلودرامي على الأغلب ــ "تفتكر يا عمر أسهل حاجة إن الواحد يلاقي أصدقاء فعلاً؟"، "في مصر أيوة".. يجيب عمر الشريف دون ثانية تفكير.

اقرأ أيضاً: عمر الشريف وفاتن حمامة وعزالدين ذوالفقار: ثلاثي الفن والحبّ

مفتاح حياة عمر الشريف كلها، فترات الصعود والهبوط في مسيرته الفنية، رحيله من مصر وعيشه مرتحلاً، الشعور الذي لازمه في الجزء الأكبر من حياته بكونه "غريباً"، كل شيء يمكن تفسيره من خلال هذا الحوار القصير الذي استغلت الإذاعة المصرية فيه وجود "حليم" في النمسا، وصداقته الطويلة بالشريف كي يتحاورا. ولكي نفهم لماذا هو "الغريب" يمكن تقسيم حياته لـ4 مراحل:

الصدفة

دائماً ما اعتبر عمر الشريف نفسه محظوظاً، تتحرك حياته بصدف جميلة متتابعة. بشكل أو بآخر هذا حقيقي. تلك الصدفة البعيدة مثلاً التي حصلت عام 1954 وجعلت يوسف شاهين يمنحه دور البطولة في فيلم "صراع في الوادي"، بعدما قرر استبعاد شكري سرحان المرشح الأول للدور. الفيلم، الذي حقق نجاحاً عريضاً وقتها، لم يفتح له فقط باب النجومية والسينما والحلم الذي أراده منذ الصغر في أن يكون ممثلاً، ولكن منحه أيضاً حب حياته ومن أصبحت زوجته بعد أشهر عدة من رؤيتها للمرة الأولى.. فاتن حمامة.



تلك الفترة هي الأكثر هدوءاً واستقراراً في حياة الشريف، الوقت الذي لم يكن فيه "غريباً"، علاقته وحياته كانت مستقرة جداً مع فاتن حمامة، قصة الحب المثالية بين سيدة الشاشة وفتاها الأول، بينما في السينما كان يتنقل بخفة للعمل مع عدد من أهم المخرجين في تاريخ السينما المصرية.. مع شاهين في صراعي "الوادي والمينا".. كمال الشيخ في "سيدة القصر".. صلاح أبو سيف في "بداية ونهاية".. عز الدين ذو الفقار في "نهر الحب".. فطين عبد الوهاب في "إشاعة حب".. بركات في "في بيتنا رجل"، وغيرها من الأعمال الذي ترك من خلالها إرثاً عظيماً، مهّد لخطوته التالية التي غيّرت حياته للأبد.


"الدليل" الذي صار من الأشراف

لا أحد يعرف تحديداً لماذا قرر المخرج الأسطوري دايفيد لين تغيير رأيه في اللحظات الأخيرة، واستبعاد الفرنسي موريسي رونيت من التمثيل في الفيلم ومنح دوره لعمر الشريف، صدفة أخرى؟ ما حدث أن لين كان يريد في البداية ممثلين عربا لعدد من الأدوار الثانوية العابرة في الفيلم، المنتج سام بيغل قام بجولة في الدول العربية، ومن ضمنها مصر، قابل عمر الشريف ورشحه لدور "دليل الصحراء" الذي يُقتل في بداية الفيلم على يد شخصية "الشريف علي"، التي سيلعبها الفرنسي موريسي رونيت. وافق الشريف، وسارت الأمور بشكل جيد، باستثناء أن المخرج قرر فجأة استبعاد رونيت، ومنح الممثل المصري شخصية رئيسية في الفيلم.


اقرأ أيضاً: فنانون ينعون عمر الشريف: فضّل أن ينعزل في باريس


لحظة ظهور عمر الشريف الأولى في السينما العالمية ظلت خالدة بعد ذلك للأبد، يراه "لورانس" و"الدليل" في الأفق، ظل بين الصحراء والسماء، يشعر المشاهدون بالرهبة، ويزداد فضولهم بشأن القادم المجهول، خصوصاً مع استخدام المصور "فريدي يونغ" لعدسات خاصة (482 مم) لجعل اللقطة مختلفة عن أي شيء آخر، وحين يأتي الرجل أخيراً، مسبوقاً برصاصة تقتل الدليل، يكون "الشريف علي"، أو من عرف الناس في الخارج بعد ذلك أنه ممثل مصري يدعى عمر الشريف.

جائزة "غولدن غلوب"، ترشيح للأوسكار، انطلاقة كبرى في العديد من الأفلام المهمة، الشريف كان يملك في جعبته شيئين ثمينين للغاية: الأول هو ملامحه الشرقية، والثاني لغاته المتعددة، ما جعله الخيار المفضل في السينما العالمية طيلة هذا العقد لدور (الشرقي) أو بشكلٍ أدق (الشخص الذي لا تشبهنا ملامحه). وعلى ذلك كان الطبيب الروسي في "دكتور زيفاغو" لدايفيد لين من جديد، المقامر اليهودي ذو الأصل الألماني في "فتاة مرحة"، الثائر الروماني في ملحمة "سقوط الإمبراطورية الرومانية"، أمير إيطالي في معالجة لقصة سندريلا أمام صوفيا لورين في "أكثر من معجزة"، محقق بولندي في "ليالي الجنرالات"، جنكيز خان في فيلم هوليوودي عن "جنكيز خان"، أو حتى "تشي غيفارا"، وغيرها من الأفلام التي "ارتحل" فيها بين العديد من الدول.



في تلك الفترة كان "غريباً"، كما يقول، لا يستقر في دولة واحدة، يعيش في الفنادق، يرى ابنه وزوجته بين كل حين وآخر، كانت فترة صاخبة، وممتلئة، وغير مستقرة، وفي النهاية انفصل عن فاتن حمامة عام 1974.. وانفصل بذلك عن حياته القديمة كلها.


كأن الحاضر أبدٌ

في السبعينيات، انتهت فترة النجومية، لكبر السن ربما، ولانطفاء حماسه أيضاً، لم يعد يريد العودة لمصر، ولا يرتاح في الاستقرار خارجها، فعاش حياة الصخب حتى آخرها. "أدركت أن لدي حياة واحدة فقط، الندم على الماضي سيكون خاطئاً، وانتظار شيء معين ليحدث في المستقبل هو خطأ أكبر، قررت فقط أن أعيش سعيداً". هذا ما قاله عمر الشريف في تصريح صحافي عن تلك الفترة.

لم يعد ممثلاً في أفلام هامة، يقدم أدواراً صغيرة في أفلام لا يتذكرها أغلب الأحيان، إيطاليا فنلندا فرنسا الهند المملكة المتحدة، الكثير من العمل في التلفزيون الأميركي. المزيد من الترحال والصخب، يحب المقامرة، والنساء، وحياة الفنادق الفاخرة، عاش ذلك كله حتى آخره، دون اعتذار، عاش من دون النظر لماضٍ أو مستقبل، كأن اللحظة الحالية مستمرة للأبد.
"مثلت في الكثير من الأفلام السيئة التي أكرهها، ولكني لست نادماً على شيء، العمر قصير كي نعيشه في ندم، الأكيد أنني لحظة فعلت كل شيء.. كان علي أن أفعله".



ومن يعش ثمانين حولاً

في 2003 قدم الشريف دور المتصوف التركي المسلم في الفيلم الفرنسي "السيد إبراهيم وزهور القرآن" لفرانسوا دوبيرون، نال عنه جائزة أفضل ممثل في الـ "سيزار"، وجائزة أفضل ممثل من قبل الجمهور في مهرجان "فينيسيا"، كانت لحظة جيدة في حياته أن يعود للواجهة في فيلم مهم، عن شيخوخة هادئة لرجل عجوز.

في الحياة الحقيقية لم يكن عمر العجوز هادئاً، كان عصبياً، "خلقه ضيق" كما يصف نفسه، ولكنه أصبح أكثر طيبة حتى من السابق، صريحاً وحاداً ومتسامحاً، خصوصاً حين ينطلق في الكلام عن الماضي، ويضع في حكاياته كل شيء يمكن للمجتمع أن يدينه ويتحفَّظ عليه، ولكن الناس ظلوا يحبّونه، وينجذبون -بوعي أو بغير- للرجل العجوز الذي عاش حياته طولاً وعرضاً، وظل متصالحاً مع أخطائه قبل حسناته، دون أن يخاف أي شيء.. حتى الموت.
المساهمون