الإعلام في غرف الحجر: البيوت لم تعد أسراراً

20 مايو 2020
الطرائف باتت عادية خلال الفيديوكونفرانس (كريستيانو مينيتشيللو/Universal Images Group)
+ الخط -
خلال نشرةٍ للأخبار في شهر آذار/ مارس من عام 2017، على شاشة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وكمشهدٍ من أفلام الكوميديا البصرية، حيث الواجهة جديّة فيما الأحداث الدائرة في الخلفية مُفارِقة وهزلية، يقتحم على حين غرّة كلٌّ من ولدي المحلل السياسي والخبير في شؤون كوريا الشمالية، البروفسور روبرت كيلي، غرفة مكتبه أثناء إجرائه اللقاء مباشرةً على الهواء؛ واحداً تلو الآخر، أصغرهما في عربة أطفال يجرّها برجليه. استدعى ذلك من مُقدّم البرنامج احتواءَ الموقف بالتعليق مشيراً إلى طرافته، ثم تدخّل زوجة كيلي في محاولة إحباط محاولة الاقتحام تلك، بينما هو بإحدى ذراعيه يحاول يائساً إبعادهما إلى خارج إطار الشاشة، مقدّماً بحرجٍ بالغ الاعتذار تلو الاعتذار. عفوية المشهد وطرافته حينئذٍ جعلت "بي بي سي" تقتطع الفيديو وترفعه على حسابها في موقع "يوتيوب"، ليغدو ظاهرةً فيروسية شاهدها أكثر من ثلاثين مليوناً حول العالم، بعنوان "المقابلة التي شغلت الإنترنت".
لئن كان الطريفُ في اللغة أصلاً ما هو غريب ونادر، فقد أدت حال الحجر والإقفال السائدة اليوم جرّاء انتشار وباء "كوفيد-19" إلى أن يُمسي البيت كأمر واقع، المكانَ الطبيعي والوحيد الذي منه وعبره تُجرى وتُدار الندوات التلفزيونية حول العالم. جُلّها يسير بوسائط تطبيقات التهاتف المرئي على الإنترنت، كـ"سكايب" و"زوم" و"واتساب" و"فيس تايم" وغيرها. الوضع الذي بدّل كُليّاً، وبغضون أسابيع قليلة، ليس فقط متابعة النشرات وما تتضمّنها من مقابلات وتتخلّلها من حوارات ومداخلات، وإنما ظروف البيئة التقنية السمعية - بصرية، فضلاً عن الاجتماعية التي تحيط سواءً بإنتاجها وبثّها أو باستقبالها والتفاعل معها، لتمسي طُرفة عائلة البروفسور كيلي، حين يُحتجز كل الأولاد في البيوت في كلِّ الأوقات، مسألةً عادية متوقّعاً حدوثها على الهواء في أيّ لحظة.
لم يتخيل أحد في الماضي القريب، اللهم سوى بوحيٍ من أفلام الخيال العلمي، أن يتسنى لنا مهاتفة الآخرين صوتاً وصورة أينما كانوا وكنّا، وذلك بواسطة أجهزةٍ بحجم اليد نحملها معنا دائماً. لم يتخيل أحدٌ أيضاً، وإن ظل الاحتمال دوماً راجحاً والخوف قائماً اضطراداً بمُقتضى البحوث والدراسات، أن يحلّ بالبشرية جمعاء فيروسٌ فتّاك يفرض العُزلة ويقوّض الحركة في كل مدينة وقرية، فلا يعود لنا من وسيلة للتواصل والتقابل والتخابر سوى حواسبنا أو الأجهزة الصغيرة تلك. هكذا، أصبح مبدأ "النأي الاجتماعي" على مدار الأشهر الأخيرة القانون الذي تسير وفقه الحياة، والبيئة التي تتكّون في مجالها التجربة الإنسانية.
فجأة، وعبر مُكبّر صوت عصري منزلي، محيطي ومُتعدد الأقنية، موصولٍ إلى شاشة عملاقة فائقة الدقة، يُسمع صوت الأمين العام للأمم المُتحدة، أنطونيو غوتيريس، يُلقي كلمة من مكتبه في نيويورك بخصوص الوباء، كما لو أنه يتناهى عبر مذياع من جيل منتصف القرن الماضي. أما الصورة، فتتقطع وتتكسّر وتتسمّر، ألوانها باهتة، خطوطها داكنة وعتمة كما لو تعود إلى زمان أول السبعينيات، إبان عهد الأمين العام الأسبق أو تانت 1909 - 1974.
أثناء اجتماع لمجلس الأمن الشهر الماضي، والذي عُقد على الإنترنت، رصدت شبكة "الجزيرة" الإعلامية العديد والطريف من الصعوبات والاستعصاءات التقنية التي ألمّت بزعماء العالم ودبلوماسيّيه وهم يجهدون في التكيف مع حال قمم ومؤتمرات ما بعد كوفيد-19. منهم من سها إما عن تشغيل الميكروفون وإما الأخطر من ذلك إطفائه. منهم من جلس على مقربة شديدة من مِحرق عدسة الكاميرا لتُلتقط ملامحه بشكل كاريكاتوري أخلّ بتناسب أبعاد الوجه والجسم. ومنهم، من اضطر لإعادة الاتصال أكثر من مرة لتقطّع الخط ورداءة الصورة والصوت.

بفرض حداثة الأجهزة وسلامة الاتصال وسرعة وسلاسة الرفع والتحميل والتشبيك بالإنترنت، يبقى كل من الصوت والصورة عبر خدمة سكايب وأخواتها قاصرين بأشواط عن تلك التي تُسجّل وتُبث من الاستوديو الإذاعي أو التلفزيوني. فضلاً عن تفوّق المعدّات التي عادة ما تتوفر لدى المحطات الإعلامية ومكاتبها المنتشرة حول العالم، غالباً ما تفتقر البيوت، ومن يسكن فيها، إلى ألف باء التسجيل والتصوير.
إجراء المقابلة في غرفة جلوس فسيحة، شحيحة الأثاث عارية الجدران يزيد من ارتداد الصدى، ما يُضعف الصوت ويُقلّل من حدّته ووضوحه. أما اللجوء إلى غرفة صغيرة أو احتلال زاوية ضيقة تؤوي كتباً وتحتوي على ستائر سميكة، سيزيد من مستوى العزل ويساعد على حَزم الصوت، وبالتالي يرفع من جودته ودقّته.
أما الصورة، فتتأثر بمدى شدة الإضاءة ومنحى توجيهها؛ الجلوس أثناء الحوار مقابل الهاتف أو الحاسوب وفي الخلفية نافذةٌ يسطع من خلالها ضوء النهار سيؤدي لا محالة إلى عتمة الصورة مهما بلغت دقة الكاميرا. في المقابل، فيما لو أتت الإنارة مُقابِلةً هيئة المُحاور أو المُتحدّث، من شأن ذلك حتماً أن يُحسّن الصورة، مهما هزُلت وتأخرت الوسائط المُستخدمة في التقاطها، ومن ثم تسجيلها وبثّها.
بعدٌ آخر، اجتماعي، يُضاف إلى المشهد الإعلامي المستجد، ألا وهو تداخل المجال العام بالخاص. ففي أكثر الحوارات التلفزيونية جديّة وسخونة وفي اللحظات الأكثر جدلاً واحتداماً، قد يُسمع بكاء طفل يتسرب إلى مجرى الحديث. مواء قطة أو نباح كلب يصدر عن الردهة أو الحديقة، يخترق غمرة استغراق المشاهدين والمُتحاورين فيما لو كان تعقيباً على إحدى المداخلات حيال أحد الموضوعات.

مرّات، يُشاهد أحد أفراد العائلة وهو يقطع مشهد الخلفية أثناء عبوره نحو الغرفة المجاورة، حتى إنه قد يدخل إلى حيث ضيف البرنامج على الهواء، ليهمّ بتناول كتابٍ من على أحد الرفوف أو يسترجع حاسوباً قد تركه هناك، أو حقيبةً كان قد ألقى بها على الأريكة.
أرقى المؤسسات الإعلامية، تلك التي تملك أضخم الاستوديوهات وتستخدم أحدث التجهيزات، باتت في ظل ظروف الحجر والإقفال تعتمد كُلياً على صورة عادةً ما تناقلتها الجوالات وتداولتها عامة الناس. وجهٌ من وجوه التناقض الذي نعيشه هذه الأيام؛ فمن جهة، لعلها أكثر شكلانية، يبدو كما لو أصاب البشرية حالٌ من النكوص، إذ ها هي تعود عن منجزاتٍ ومكتسباتٍ تكنولوجية نوعية في إطار جودة البث والاستقبال. غير أنها من ناحية أخرى، لعلها أكثر جوهرية، قد تجاوزت تكنولوجياً حظرَ تجوال كونيٍّ غير مسبوق عمّ الأصقاع كلها، لتتوفر للناس سبل التواصل الحي والتنسيق الفعلي، ويتأمن استمرار عمل وسائل الإعلام وتمكّنها من نقل الخبر والوصول إلى أصحاب الرأي والقرار في دُورهم وغرف نومهم وجلوسهم وبين أسرهم وأطفالهم، في صورة لم تكن لتخطر من قبل على بال.
دلالات