"مجهول" يعرفه الكلّ يقتل صحافيي العراق

12 يناير 2020
شيع العراقيون أحمد عبدالصمد وصفاء غالي (حيدر حمداني/فرانس برس)
+ الخط -
خلال الأشهر الثلاثة الماضية التي تشهد احتجاجات متواصلة ضد النظام السياسي الحاكم والأحزاب في العراق، وقع الصحافيون تحت تهديدٍ أدى إلى مطاردتهم واضطر بعضهم إلى اللجوء إلى أماكن أكثر أمناً من بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، والهجرة مؤقتاً إلى إقليم كردستان وتركيا والأردن، ومن لم يختر الهروب وقع ضحية الاغتيالات التي ينفّذها المسلحون

ظلّت وسائل الإعلام في العراق والعاملون فيها من مراسلين ومحررين ومقدمي برامج وغيرهم هدفاً للمليشيات والجماعات الإرهابية طيلة السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي عام 2003، لكن الجرائم التي تطاول صحافيين ترتفع تارة وتتراجع أخرى، إلا أنها تحدث عادة من دون أي اهتمام حكومي، لا سيما أن التحقيقات التي تعلن عنها السلطات الأمنية في البلاد لا تصل إلى أي نتيجة ولا تحاسب أحداً.

وشهدت مدينة البصرة، مساء الجمعة، مقتل المراسل الصحافي أحمد عبد الصمد، بعد تلقّيه أكثر من ثلاث رصاصات استقرت في جسده، والمصور صفاء غالي بثلاث رصاصات أخرى، فيما فرَّ القتلة كما كل مرة إلى موقعهم الذي لا يعرفه أحد. لكن أصابع الاتهام تشير إلى أنهم ينتمون إلى فصيل مسلح مرتبط بإيران سبق تورطه بجرائم مماثلة في البصرة ومدن جنوبي العراق والعاصمة بغداد، وهي الجهات نفسها التي تمارس التخويف وعمليات الاختطاف لناشطين عراقيين ومحتجين، بسبب رفع شعارات مناهضة لإيران وتدخلاتها في البلاد.

وقبيل اغتياله، وجّه عبد الصمد، في آخر تغريدة كتبها على حسابه في موقع "تويتر"، انتقادات لإيران، رافضاً ما سماها "الحرب بالوكالة" على أرض العراق، بعد توجيه الحرس الثوري الإيراني ضربات على العراق، رداً على اغتيال الولايات المتحدة قائد "فيلق القدس"، قاسم سليماني.


وتبدو حادثة اغتيال عبد الصمد شبيهة باغتيال الروائي علاء مشذوب والناشط فاهم الطائي، إذ تمت بواسطة مسلحين مجهولين على دراجة نارية، وهو ما أكدته مصادر من البصرة لـ "العربي الجديد"، مبينة أنّ "عبد الصمد كان قد تلقى عشرات التهديدات خلال الأشهر الثلاثة الماضية بسبب تغطيته للتظاهرات في المدينة، ودعمه الإعلامي لها، إلا أنه لم يتعامل مع التهديدات بجدية".

وبعد الاغتيال، دانت "المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق"، في بيان، "كافة أشكال العنف والاغتيال والخطف التي تطاول المتظاهرين والناشطين والصحافيين. وطالبت نقابة الصحافيين العراقيين، السلطات الأمنية، بالكشف عن الجناة وملاحقتهم وتقديمهم إلى العدالة.


ويرى مراقبون عراقيون أن السلطات الأمنية والفصائل المسلحة تمارس قمعاً غير محدود تجاه حرية الإعلام والصحافة في البلاد، خصوصاً أن الحكومة كانت قد قررت، على خلفية اندلاع التظاهرات في البلاد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إغلاق عدد من القنوات الفضائية، وشنت حملة واسعة للتضييق على الحريات ومحاولات التعتيم الإعلامي، وكذلك حجبت الإنترنت لأكثر من 20 يوماً، عُزل فيها العراقيون عن العالم. وتضمّن القرار العراقي إغلاق ثماني قنوات فضائية ومحلية، وتوجيه إنذارات حادة اللهجة إلى محطات أخرى، فيما اعتقل عشرات الصحافيين ثم أفرج عنهم.

وقال وزير عراقي سابق، لـ "العربي الجديد"، إن "الحكومة العراقية وبالتنسيق مع قيادة العمليات العسكرية في البلاد و(هيئة الحشد الشعبي) وبعض الفصائل التي تمثل الذراع الأقوى في حماية النظام، اتفقت منذ بداية التظاهرات على تحجيم دور الإعلام المؤيد للاحتجاجات، كما اتفقت على إغلاق عدد من المؤسسات الصحافية وإبلاغ الصحافيين بالتزام منهج عدم التصعيد"، مبيناً أن "الفصائل المسلحة المقربة من إيران وزعت الأدوار فيما بينها بشأن قمع الحراك الشعبي، فيما توجهت ثلاثة فصائل إلى ملاحقة الناشطين والمصورين ومراسلي القنوات الفضائية في ساحات الاحتجاج، ولم يكن الاتفاق بين الحكومة والفصائل على قتل أحد، ولكن يبدو أن المسلحين اختاروا اللجوء إلى هذا الخيار بعدما شعروا بأن السيطرة خرجت من أيديهم، وصار صوت الشعب أقوى من النظام".

وأضاف الوزير السابق نفسه، رافضاً الكشف عن اسمه، إن "فصائل مسلحة مقربة من الحكومة، وتتبع (الحشد الشعبي)، مسؤولة عن القمع الذي يتعرض له المحتجون، إضافة إلى تصفية الإعلاميين والمدونين المؤثرين على مواقع التواصل ولهم جمهور كبير فيها، ولو كان غير هذه الجهات لتمكنت الحكومة من اعتقالهم بعد ساعات من تنفيذ أي جريمة، لأن العراق كله مراقب بكاميرات الدولة، ووزارة الداخلية لديها وحدات رصد وترى كل ما يجري في شوارع المدن العراقية، ولكنها تغض الطرف عنها، لأنها تخشى التورط في محاسبة الفصائل التي تتحدى الدولة وتتفق معها في آن واحد". 


من جهة ثانية، بيَّن رئيس "لجنة حقوق الإنسان" في البرلمان العراقي، أرشد الصالحي، أن "السلطات الأمنية لا تجيب على أسئلة العراقيين ولجان حقوق الإنسان والمنظمات المدنية في البلاد، بشأن قتل الإعلاميين والناشطين، وتكتفي بفتح تحقيقات سرعان ما تصبح من التاريخ، من دون القبض على أو محاسبة أي متورط"، مؤكداً في اتصالٍ مع "العربي الجديد" أن "الحكومة عليها أن تهتم بملف الاغتيالات ومعاقبة المسؤولين عنها، كما محاسبة الضباط والعناصر الأمنية المتهاونة تجاه هذه الجرائم. ومن دون هذه المعالجات فإن الاحتجاجات ستكون غاضبة أكثر، لأن القتل يفشل أمام العراقيين في إرجاعهم إلى منازلهم". 

من جانبه، أشار المراسل الصحافي، محيي الأنصاري، إلى أن "الجهات السياسية التي تمتلك أذرعا مسلحة، وتضررت بفعل التظاهرات ونتائجها، هي المتهم الأول فيما يحدث من استهداف للصحافيين والناشطين، وكل من يمتلك قلماً يقف مع مطالب الشعب المحتج يصنفه النظام السياسي عدوا. ولعل المنصات الحكومية وحتى متحدثيها الرسميين كانوا ولا يزالون مثالاً لما تتناوله أقلامهم وألسنتهم من تحريض واتهام لهذه الفئة"، موضحاً لـ "العربي الجديد" أن "الحكومة العراقية هي الخاسر الأكبر من ثورة الشارع، وبالتالي فإن الصحافة تمثل عنصراً مهماً في دعم استمرارية زخم الاحتجاج، وهذا يضر بمصالح الحكومات المحلية أو المركزية، لذلك تتغاضى عن التحقيق في الجرائم". 



وفي السياق نفسه، لفت المحرر الصحافي العراقي، أحمد نبيل، إلى أن "أغلب الصحافيين، إن لم يكونوا جميعهم، هم من الناشطين البارزين في التظاهرات، وكان لهم دور كبير في نقل الأحداث وإيصال الأخبار إلى الرأي العام والمجتمع الدولي من عمليات قتل وقمع للمحتجين، وبالتالي فإن المليشيات ترى ضرورة تصفية هؤلاء، مع العلم أن التظاهرات تشهد زخماً كبيراً وغضباً إضافياً بعد كل عملية اغتيال"، مضيفاً لـ"العربي الجديد" أن "الحكومة لا توفر الحماية لأي أحد، لا للصحافيين ولا لغيرهم، في ظل انتشار السلاح بيد المليشيات التي تسيطر على الملف الأمني في أغلب المحافظات، وتتحرك بهويات وسيارات تابعة للدولة". 

وتشهد مناطق مختلفة في العراق تظاهرات غير مسبوقة منذ عام 2003، احتجاجاً على تردي الأوضاع وانتشار الفساد، والتدخل الإيراني في السياسة الداخلية للعراق. وقد أسفر عنف القوات الأمنية والمليشيات في قمع المحتجين عن سقوط قرابة 600 قتيل وجرح أكثر من 25 ألف مواطن، جراء إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين.
المساهمون