شركات التوظيف الوهمية [1/2]... نصب فوري وآخر مؤجل على المصريين بتركيا
استمع إلى الملخص
- تنتشر الظاهرة في منطقة شيرين إيفلر بإسطنبول، حيث تستهدف شبكات النصب فئات عمرية معينة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتطلب مبالغ مالية كبيرة مقابل فرص عمل وهمية، مما يوقع الضحايا في فخ الاستغلال.
- تتعاون بعض الجهات التركية مع المحتالين، مما يعقد الوضع للضحايا الذين يواجهون إجراءات قانونية صارمة، بينما يجدون صعوبة في استعادة حقوقهم أو تقديم شكاوى.
تستغل شركات توظيف وهمية، تفشي الفقر والبطالة في مصر، لتستهدف باحثين عن عمل في الخارج، وتعدهم برواتب قليلة لكن قيمتها كبيرة جراء التضخم في بلادهم، وبمجرد السفر يتخلون عنهم كما يكشف تحقيق من جزأين أولهما من تركيا.
- أمام باب جامع الطيار الشهيد جنكيز توبال، في ساحة ميدان شيرين إيفلر التي تعج بالمصريين والعرب الموجودين في مدينة إسطنبول، وقف الخمسيني أحمد سعيد مع صديقه وابنه إسماعيل وإلى جوارهم حقائب سفرهم التي وضعوا فيها ما خف حمله، ويصعب التخلي عنه، وبينما يعاودون الاتصال بأرقام لا تردّ عليهم، اقتربت منهم معدة التحقيق بعدما ميزت لهجتهم المصرية، سألتهم إن كانوا قادمين من القاهرة للعمل في تركيا، فبادرها أحمد قائلاً: "وصلنا للتو، لكن شركة التوظيف التي استخرجت التأشيرة لم تستقبلنا في المطار بحسب الاتفاق، والآن لا يجيبون على اتصالاتنا".
ورغم محاولاتهم الفاشلة في الوصول إلى الموظف الذي نسّق سفرهم، لم يصدق ثلاثتهم أنهم تعرضوا للنصب، يعبر أحمد عن ذلك قائلاً: "الدنيا مشاغل سيُجيب بعد قليل بلا شكّ". لكن الأمل هذا لم يدم أكثر من ساعة وبعدها حظر الرجل أرقامهم، وبدأت ملامح الخيبة ترتسم على وجوههم حين أدركوا أنهم في عداد ضحايا شبكات الاحتيال، مثل 15 مصرياً آخرين وثق "العربي الجديد" تشردهم في إسطنبول، في ظاهرة، "وصلت ذروتها الصيف الماضي، إذ وفد إلى ساحة شيرين إيفلر بين 20 و30 مصرياً يومياً حتى أغسطس/آب المنصرم، وهؤلاء وصلوا بمساعدة شركات أو وسطاء زعموا توفير عمل لهم"، بحسب إفادة المحامي التركي من أصل مصري حسين أحمد عمار، والذي يلجأ إليه العديد من ضحايا شبكات النصب لمساعدتهم في إيجاد حل.
مشردون في شيرين إيفلر
اتفق أحمد سعيد وابنه ورفيقهما مع شركة توظيف يعمل فيها موظفون عرب يزعمون تأمين فرص عمل للمصريين في تركيا ودول الخليج العربي، ويقول إسماعيل إنهم وصلوا إلى الشركة عبر إعلاناتها على موقع فيسبوك، إذ قرأ منشوراً في مجموعة بعنوان "تجمع المصريين في إسطنبول" جاء فيه: "مطلوب للعمل في مصنع للأحذية ثلاثة أشخاص، العمل بدوام كامل براتب ألف دولار"، والمبلغ أكثر من رائع كما رآه وقتها، لذلك عرض الفكرة على والده وصديقه، وبعد التواصل مع صفحة المُعلن طلب 600 دولار من كل شخص مقابل تأمين تأشيرة وفرصة العمل والإقامة.
في المكان ذاته، مقابل جامع الطيار توبال، يراقب أحمد ناصر من نافذة شركة الشحن التي يملكها، تردد ضحايا شبكات النصب، على ساحة الميدان، وجلوسهم بالقرب من المسجد محاولين الإمساك بأي خيط قد يطمئنهم بأن الوعود التي قدموا من مصر على أساسها ليست كاذبة، وبحسب ناصر فإن شيرين إيفلر أو "حي المصريين" كما يطلق عليه بين أعضاء الجالية، بات وجهة القادمين للبحث عن عمل، لأن الشركات كانت تخبرهم بأن المكان فيه نقطة تجمع، ومن ثم صاروا يجولون فيها بحثاً عن عمل أو ينامون حتى في الميدان بعد أن تتقطع بهم السبل، وهو ما لفت أنظار الجهات الأمنية التي بدأت حملة لملاحقتهم في أغسطس حتى إن سيارتي الشرطة وإدارة الهجرة لا تغادران الساحة حالياً، ولذلك بات الضحايا يتخفون عن الأنظار خوفاً من الترحيل.
ضحايا بين 19 و45 عاماً
تستهدف شبكات النصب من تقل أعمارهم عن 19 عاماً وكذلك من تجاوزوا 45، لأن هذه الشريحة العمرية يحق لها القدوم إلى تركيا بواسطة تأشيرة إلكترونية بتكلفة 30 دولاراً تمنح صاحبها حق البقاء في البلاد 30 يوماً، وفقاً للمحامي عمار. وينشط المحتالون على "فيسبوك" ويستغلون الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر في ظل نقص فرص العمل وتدني مستوى الرواتب ليقدموا إغراءات بتأمين فرص عمل براتب قليل في تركيا، بينما قيمته كبيرة في مصر بسبب تدني قيمة الدخل والتضخم الكبير، ومقابل ذلك يطلبون مبلغاً يتم تحديده بحسب المستوى المادي "للزبون"، ويراوح بين ألف وخمسة آلاف دولار، بحسب إفادة الأمين العام للجالية المصرية في تركيا نادر فتوح، والذي رصد الظاهرة ضمن الأوساط التي يلتقيها ويستمع إلى مشكلاتها.
مصريون وأتراك شركاء في خداع الباحثين عن عمل في إسطنبول
ومن أجل توثيق كيف يتم خداع الضحايا، تتبع "العربي الجديد" عبر حساب وهمي على فيسبوك نشاطات 5 مُعلنين عن فرص عمل للمصريين في تركيا، ورد اثنان أنهما يبحثان عن عمال لا تقل أعمارهم عن 45 عاماً، لتشغيلهم في مصانع براتب 18 ألف ليرة تركية (520 دولاراً)، مع تأمين السكن ووجبة غداء وخدمة الإنترنت، مقابل أن يدفع الشخص 45 ألف ليرة (1300 دولار)، وطلب المعلنان من معدة التحقيق إرسال جواز السفر للانتقال إلى الخطوة التالية. ولم تختلف المتطلبات التي شرحها حساب باسم "شعبان فراولو"، إذ طلب 45 ألف جنيه مصري (900 دولار) مقابل تأشيرة السفر وفرصة العمل، على أن يتولى صاحب العمل استكمال أوراق الإقامة والسكن.
أما الجهة الرابعة التي تنشر إعلاناتها ضمن مجموعات وصفحات على "فيسبوك" و"تيك توك" مثل (فرص عمل للمصريين في تركيا)، فقدمت مزيداً من التسهيلات لاستقطاب الضحايا، إذ شمل العرض إمكانية تقسيط العامل المستفيد من خدمات الشركة التي تسمي نفسها على صفحتها EKi للمبلغ المستحق عليه، فما عليه سوى دفع 200 دولار لمكتبها في مصر لتسليم العامل تأشيرة مع تذكرة الطائرة، ولدى الوصول يدفع 200 دولار لدى استقباله في المطار وكذلك في مقابل السكن المجاني لحين تسلّم العمل، وخط اتصال تركي، وبعد العمل في مصنع وصفه بـ"الكبير"، يتعين الدفع على مدار 3 شهور 100 دولار للشركة صاحبة "عرض الأقساط الذهبي".
ومن أجل استقطاب الضحايا تنشط سيدة باسم Shiraz، في نشر مقاطع فيديو لمصريين وصلوا حديثاً إلى تركيا، وتسألهم حول رضاهم عن الخدمات وتقييمهم للتعامل مع شركة "سامح خير الله"، التي استقدمتهم إلى تركيا، وفي مقاطع أخرى تظهر شيراز وهي تروج بالطريقة نفسها لشركة "الحاج حمدي"، والتي اقتفت معدة التحقيق أثرهما عبر البحث عنهما في السجل التجاري التركي، ولم تجد لهما أي وجود. ولدى مواجهة معدة التحقيق لشيراز عبر اتصال هاتفي، أنها تروج لشركات توظيف وهمية وتحتال على الباحثين عن عمل، ردت بإصرار أن عملها يقتصر على الترويج للشركات وأنها قبل الإعلان لأي منها تتأكد من مصداقيتها ولذلك بحسب قولها حققت شهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن عند سؤالها إن كانت الشركات قادرة على استخراج إقامات وإذن عمل نظامي للعمال المصريين، أحالت المسؤولية إلى صاحب العمل وليس الشركة التي تستقدمهم وينتهي دورها بوصولهم، وتهربت بتقديم إجابة مفادها أنها "تحاول مساعدة العمال عبر التوسط لهم عند أرباب العمل بزيادة أجورهم وحصولهم على سرير لائق للإقامة"، وعند إصرار معدة التحقيق على سؤالها عمَّن تعرضوا للنصب قالت :"السوق كبيرة فيها مئات الشركات، أنا أروج لجهات موثوقة، تؤمن سريراً وعملاً كريماً".
نصب فوري وآخر مؤجل
بعد مطابقة التفاصيل التي رواها الضحايا ممن انطلت الخدعة عليهم، اتضح أن المصري بعد وصوله إلى تركيا يكون أمام مسارين، الأول نصب فوري، إذ يتهرب منه من استقدمه، والثاني نصب مؤجل، يتم عبر تشغيله في جهات مثل مصانع وورش خياطة ينسق أصحابها مع المحتالين لتشغيل العامل المصري بشكل غير قانوني ومن ثم يتهرب صاحب العمل من حقوقه ولا يلتزم بالحد الأدنى للرواتب المحدد بـ 17 ألف ليرة (500 دولار)، ولا يمنحه إذن عمل أو أوراقاً للإقامة، وبعد انقضاء ثلاثين يوماً (مدة التأشيرة)، يصبح وجوده مخالفاً للقانون، لذلك يقترح عليه المحتالون تأمين مأوى مقابل 100 دولار شهرياً، ليكتشف بعدها أنه مهجع يمنح فيه سريراً فقط أو حتى بساطاً ويسكنه العشرات من الضحايا في ظروف غير إنسانية، أما العمل الذي وُعد به فهو أشبه بالاستعباد كونه يداوم أكثر من 12 ساعة يومياً براتب هزيل لا يزيد على 13 ألف ليرة (374 دولاراً).
بين 20 و30 مصرياً يصلون يومياً إلى ساحة شيرين إيفلر بحثاً عن عمل
لكن حسام كامل (18 عاماً)، عانى الأمرين كما يقول، إذ تخلت عنه الشركة التي دفع لها قيمة الحصول على فرصة عمل، ووجد نفسه وحيداً في ميدان شيرين إيفلر، وبعد مساعدة أبناء بلده عثر على سرير في سكن جماعي، وبحث وحده عن عمل، وتنقل خلال 6 أشهر بين 7 أماكن؛ بعدما استغل أرباب الأعمال حاجته إلى المال، وأجبروه على العمل 14 ساعة يومياً مقابل 1500 ليرة في الأسبوع (43 دولاراً)، "وفي اللحظة التي يطالب فيها بزيادة راتب أو تقليل ساعات العمل أو المساعدة في أوراق الإقامة يطرد فوراً".
ولا يلجأ الضحايا إلى تقديم بلاغات للشرطة التركية عن الشبكات التي خدعتهم ونهبت أموالهم وفق عامر، مرجعاً ذلك إلى أن الضحايا هم غالباً من الشرائح البسيطة التي لا تعرف كيف تضمن حقوقها، ولا يرغبون في التوجه إلى الشرطة إما خوفاً من الحبس أو من العصابة نفسها، مبيناً أن بعضهم لجأ إلى القنصلية المصرية في إسطنبول وتم التكفل بمصاريف عودة عدد منهم إلى مصر.
ملاحقة وترحيل
خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ألقت الشرطة التركية القبض على 48 مصرياً مخالفاً لقانون الإقامة التركي، أقاموا في المنزل ذاته، وجميعهم ضحايا شركات أوهمتهم بفرص عمل ستحقق أحلامهم، بحسب فتوح الذي قابلهم خلال تتبعه الظاهرة.
ما سبق، يؤكده ضابط في مديرية شرطة غونغران Güngören بإسطنبول (طلب عدم الإفصاح عن اسمه كونه غير مخول بالتصريح للإعلام)، موضحاً أن المخالفين يحتجزون في 3 مراكز إيواء بالمدينة هي سيلفري وتوزلا وأرناؤوط كوي، حتى يتم ترحيلهم، "ولم تعد الشرطة التركية اليوم تنظر للمصريين القادمين عن طريق هذه الشبكات على أنهم ضحايا"، لأنهم سمعوا بلا شك بوجود هذه الشبكات إلا أنهم يتعاملون معها ويقررون البقاء بشكل غير قانوني بحثاً عن فرصة للعمل في تركيا، ما دعا الشرطة وإدارة الهجرة إلى التعامل بمزيد من الحزم، ويوضح: "في الماضي كنا نطلب منهم التوقيع على تعهد بالعودة إلى مصر ثم نتركهم طلقاء، أما الآن فنحتجزهم حتى يتم ترحيلهم"، وتصل مدة الاحتجاز الأولى إلى ستة أشهر تكون قابلة للتمديد وفقاً لقرار من الوالي، وتقوم إدارة مركز الاحتجاز بإيداع الأجانب في غرف مع مراعاة جنسيتهم وأعمارهم، ويتم إعلامهم عبر مترجم بحقوقهم ومسؤولياتهم وإجراءات إعادتهم إلى أوطانهم.
وكشف الضابط أن أغلب المحتالين هم من المصريين وبعض العرب والإيرانيين، كما يتورط أتراك في عمليات النصب من خلال ادعائهم أنهم يساعدون الضحايا في تحصيل الإقامات وأذون العمل مقابل مبالغ مالية كبيرة.
طريق أطول هربا من التصريح الأمني
تفرض السلطات المصرية على القادمين إلى تركيا الحصول على تصريح أمني، يستغرق استخراجه ثلاثة أيام، لكن شبكات النصب بدأت مؤخراً تتنبه إلى توجس بعض الضحايا من استخراج التصريح الأمني، لذلك اتبعوا خطة تقوم على تسفير الأشخاص من مصر إلى مطار عُمان أو الشارقة ومنها إلى تركيا، وفق ما وثقته معدة التحقيق مع الضحايا، ومنهم فاروق الأحمد 19 عاماً، الذي وصل إلى تركيا منذ شهرين، إذ سافر من مصر إلى مطار الشارقة ومنه إلى مطار صبيحة كومجن في إسطنبول، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن شركة التوظيف أخبرته أن السفر عن طريق مطار الشارقة لا يحتاج إلى تأشيرة أو تصريح أمني.
وبدأت قصة الأحمد لدى تواصله مع وسيط (رفض الإفصاح عن اسمه لمخاوف أمنية) كان معروفاً في قريته على أنه رجل أعمال مصري يعمل في تركيا، ووعده بمساعدته على السفر والعمل هناك، وأحاله على رجل يستخدم اسم "العقرب"، يتواصل بالآخرين عبر أرقام هواتف أجنبية يستخدمها لفترة وجيزة ثم يُتلفها، وهو مقيم حسب ادعائه في مدينة أنطاكيا بمحافظة هاتاي، ويبين الأحمد أن "العقرب" وعده بتقديم فرصة عمل وسكن وإذن عمل مقابل 45 ألف جنيه، فاقترض المبلغ من أخيه الصغير الذي يعمل في ليبيا، وحين وصل إلى تركيا استقبله في المطار رجل من طرف "العقرب"، وأوصله مكان إقامته، لكن الصدمة كانت عقب 10 أيام، حين طرده مالك الشقة وأبلغه أن الاتفاق يقضي بمكوثه 10 أيام فقط، ولم يكن في تلك الفترة قد أمنّ له العقرب أي شغل، وحظر رقمه واختفى، ليخسر الأحمد أمواله ما عدا 200 دولار استعادهما من الوسيط مقابل عدم إخباره عائلته في مصر بأنه محتال، "لقد كنت محظوظاً لأنني استعدت جزءاً من حقي، يقيم معي في السكن رجال دفعوا ألفي دولار، ولم يستعيدوا منها شيئا"ً.
ورغم ما حلّ به بقي الأحمد في تركيا ينتقل من عمل إلى آخر بشكل غير قانوني متذرعا أنه "لو عاد اليوم إلى مصر سيبدو في البلد كأنه فاشل لذلك يفضل العيش هنا مؤقتاً في ضنك شديد، كي يدّخر ما يكفي لتأمين مصاريف الحصول على أوراق الإقامة ولجمع المال الذي استلفه، قبل أن يعود".