للمرة الثانية يضطر السوريون إلى ترك كل ما يملكون وراء ظهورهم للنجاة بحياتهم، فراراً من حرب السودان، إذ يسلكون دروباً صحراوية شديدة الخطورة للانتقال إلى مصر التي لا يستطيعون دخولها لعدم امتلاكهم أوراقاً ثبوتية.
- فرّ الأربعيني السوري مهند لؤي وأسرته بصعوبة بالغة من مدينة الخرطوم، بعدما غرقت في فوضى الحرب الدائرة بين قوات الجيش ومليشيا الدعم السريع منذ 15 إبريل/ نيسان 2023، ليصل إلى مدينة بورتسودان شمال شرقي البلاد، في مطلع مايو/أيار المنصرم، بعد 7 أعوام من استقراره وغيره من السوريين الذين سمح لهم نظام الرئيس المعزول عمر البشير بالقدوم دون تأشيرة، إثر تصاعد الحرب في سورية، كما يقول. "عملت في صيانة السيارات والحياة كانت جيدة لأسرتي المكونة من 5 أفراد، لكن الحرب طاردتنا مرة ثانية"، يضيف لؤي "قررنا بعد ثلاثة عشر يوماً من حياة المخيمات المؤقتة التي عانينا فيها ظروفاً إنسانية بالغة السوء، ودرجة حرارة فاقت 48 مئوية، محاولة السفر إلى مصر، رغم عدم امتلاكنا أوراقاً ثبوتية سارية المفعول، وبالفعل عقب مخاطر كبيرة تمكننا من الدخول".
وتعد عائلة لؤي من بين 409 آلاف عبروا من السودان إلى مصر، ينقسمون إلى 400 ألف سوداني و9 آلاف من جنسيات أخرى، وفيهم سوريون، بحسب بيانات تقرير الوافدين من اللاجئين وطالبي اللجوء الصادر عن مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر بتاريخ 19 يناير/ كانون الثاني 2024.
لماذا يخوض السوريون أهوال الهجرة غير النظامية ؟
من أجل منح السوريين تأشيرة دخول، تشترط سفارة مصر بالسودان الحصول على موافقة أمنية، وإقامة في السودان، وأن يمتلك المُتقدم جواز سفر ساري المفعول لمدة ستة أشهر على الأقل، بحسب ما أوضحه لـ"العربي الجديد" القنصل العام للسفارة المصرية، المستشار تامر منير، رافضاً تحديد عدد السوريين الحاصلين على تأشيرة دخول إلى مصر عبر الإجراءات الرسمية في الفترة التي تلت اندلاع الحرب قائلاً إن: "عدد من حصلوا على تأشيرة غير مسموح بتداوله إعلامياً".
ودفعت صعوبة تحقيق الشروط المطلوبة، وخاصة الافتقار إلى الأوراق الثبوتية، السوريين إلى دروب التهريب ومواجهة مخاطر الرحلة الشاقة، بحسب إفادات 5 حالات وثّقها معدّ التحقيق.
المهربون يهددون السوريين بتركهم في الصحراء
ويؤكد لؤي لـ"لعربي الجديد"، من مدينة القاهرة التي يقيم فيها حالياً، أنه قبل نجاحه بالوصول إلى مصر، انضم وأطفاله إلى آلاف السوريين الهاربين من الخرطوم ممن افترشوا العراء في مدينة بورتسودان، بعدما شاهدوا بأعينهم نهب وتدمير أماكن رزقهم من مصانع وورش ومحال تجارية ومطاعم ضاعت معها مدخراتهم للمرة الثانية.
ويقدر عدد السوريين الواصلين إلى بورتسودان بـ 8 آلاف شخص، بحسب ما ذكره محمد إبراهيم، الناشط في مبادرة أهلية تدعى تلال التطوعية (مقرها في بورتسودان وتساعد النازحين واللاجئين)، من بينهم 350 شخصاً فقط غادروا إلى مدينة القامشلي شمال شرقي سورية الواقعة تحت سيطرة مليشيا قسد، عبر شركة طيران أجنحة الشام، لكن عملية الإجلاء توقفت وظل آلاف السوريين عالقين في الخيام على ساحل البحر الأحمر، بسبب توجيه نظام بشار الأسد بإنزال العائدين في مطار دمشق بدلاً من الشرق السوري، ما دفع منسقي الإجلاء إلى إيقاف الرحلات، خوفاً من تنكيل أجهزة النظام بالعائدين. وكما يقول لؤي: "فكرة العودة إلى سورية غير واردة، خوفاً من ملاحقة أجهزة النظام".
البحث عن سمسار
لم يتوقع لؤي الوصول بسهولة إلى سمسار يرتب رحلة نقلهم إلى مصر، قائلاً، لـ"العربي الجديد"، "ساعدني سوري يعمل في مقهى شعبي وسط مدينة بورتسودان بالوصول إلى الأماكن التي يوجد فيها السماسرة العاملون مع مهربي البشر، ولدى لقائي بأحدهم أبلغني أن الشخص الواحد عليه دفع 600 دولار، وإثباتاً للجدية، دفعت 3000 آلاف دولار مسبقاً، وبعد الاتفاق انتقلنا مطلع يونيو/حزيران المنصرم إلى منزل ناءٍ مصنوع من ألواح معدنية وأخشاب في حي سلبونا الفقير بالمدينة، وقضت الأسرة 7 ساعات بانتظار المهرب، حتى وصل وطلب منا الصعود إلى عربة دفع رباعي مع ثلاث أسر سورية أخرى، وبعد أربعين ساعة وسط الصحراء، عبرنا الحدود المصرية، لكن الثمن كان غالياً، إذ خسرت أحد أبنائي".
ويرفض لؤي الحديث عن تفاصيل موت ابنه، قائلاً بينما غلبه البكاء: "موته كان بشعاً ودفنته على عجل في منطقة صحراوية قاحلة لا أستطيع العودة إليها لزيارة قبره، بسبب رفض سائق العربة نقل جثمانه لعدم وجود متسع له".
وعقب وصوله إلى مصر، نزل في محافظة أسوان الحدودية جنوب البلاد التي تشكل محطة وصول المهربين، وعندما همّ بمغادرتها نحو القاهرة، التقى في محطة الحافلات بالخمسيني السوري سامح عبد الجواد؛ وكان يقف في ذات المكان يبحث عن تذاكر لأسرته التي حالفها الحظ بعبور الحدود تهريباً كذلك، بحسب روايته لـ"العربي الجديد"، قائلاً إنه "غادر الخرطوم في 21 إبريل 2023، برفقة ثلاثة من أولاده وزوجته، متجهاً إلى مدينة أبو حمد في ولاية نهر النيل شمالي السودان، والتي كان الوصول إليها من الخرطوم يستغرق 6 ساعات قبل الحرب، لكنه احتاج إلى ثلاثة أيام من أجل بلوغها بسبب تعدد الحواجز الأمنية على الطريق وانتشار عصابات النهب المسلحة، ومكث فيها أياماً للتنسيق مع سماسرة يعملون لصالح المهربين.
ويصف عبد الجواد رحلة التهريب موضحاً أن السمسار نقلهم إلى أحد الكهوف في جبل على مقربة من منطقة العبيدية شمالي مدينة أبو حمد في 28 إبريل الماضي، ثم استقلوا عربة بوكس دفع رباعي برفقة أربعة رجال وثلاثة أطفال، وثلاث نساء جميعهم من الجنسية السورية، ويقول: "عندما أشرقت الشمس الحارقة في صحراء حلايب في اليوم الأول على طريق التهريب، وقبل أن ينتصف النهار تعرضت إحدى النساء لحالة إجهاض، وقامت الأخريات بمساعدتها، بقدر ما استطعن"، وبعد مواصلتهم السير بساعات انفجر إطار العربة الخلفي، نتيجة السير بسرعة فائقة مع ثلاث سيارات أخرى تنقل مهاجرين غير نظاميين، وفقدت المركبة توازنها، "وما زاد الطين بلة أن السائق أطفأ أضواء الكشافات أثناء السير لتجنب اكتشاف أمرنا، لكن نجونا بأعجوبة بعدما سيطر على السيارة بصعوبة".
وارتفعت وتيرة التهريب والاتجار بالبشر عمّا كانت عليه قبل الحرب في السودان، بحسب هويدا علي عوض الكريم وكيل وزارة العدل بالسودان، والتي أرجعت ذلك خلال تصريحات صحافية لها في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى ضعف رقابة الأجهزة الأمنية التي أصبحت منشغلة عن ملاحقتهم بمجريات الحرب.
أهوال في دروب الهروب
تواصل مُعد التحقيق مع مهربين سودانيين يعملون على نقل المهاجرين بين السودان ومصر، متذرعاً برغبته في السفر إلى مصر مع تسعة أشخاص من الجنسية السورية، وأبدى أحدهم، ويطلق على نفسه عثمان، استعداده للمهمة، مقابل مبلغ 300 ألف جنيه سوداني (500 دولار) لكل مهاجر سوداني، أما السوري فيدفع بين 700 و 780 ألف جنيه سوداني (بين 1165 و1298 دولاراً) كسعر نهائي بعد التخفيض، وعلل مضاعفة قيمة نقل السوري مقارنة بالسوداني بقوله: "إدخال السوريين إلى مصر فيه مخاطرة كبيرة"، مضيفاً أنه يعرف مهرباً سودانياً تم القبض عليه أثناء نقله ثلاثة سوريين، وحُكم عليه في مصر بالحبس وغرامة توازي بالعملة السودانية سبعة ملايين جنيه (11.647 دولاراً).
وطلب مهرب آخر يدعى أحمد المبلغ ذاته قائلاً إنه "ينقل السوري مقابل مبلغ يتراوح بين 700 و800 ألف جنيه سوداني، وهو ما يعادل مبلغا يتراوح بين 1165 و1331 دولارا، أما الراكب السوداني فعليه أن يدفع 300 ألف جنيه، وفي حال أقنع سوريين بالاتفاق معه سيخفض له المبلغ المطلوب دفعه".
يدفع السوريون ضعف المبالغ التي يفرضها المهربون
وتقضي المادة 6 من قانون رقم 82 لعام 2016 الخاص بمكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين في مصر أن "يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه (السعر الرسمي للجنيه مقابل الدولار 30.84) ولا تزيد على مئتي ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر، كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين، أو الشروع فيها أو توسط في ذلك". وتكون العقوبة السجن المشدد وغرامة لا تقل عن مئتي ألف جنيه ولا تزيد على خمسمئة ألف جنيه أو غرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر في حالات تسع يفصّلها القانون، من بينها إذا كان المهاجر المهرب امرأة أو طفلاً أو من عديمي الأهلية أو من ذوي الإعاقة.
ويؤكد المحامي المتخصص في قضايا الهجرة واللجوء آدم محمد، والذي يعمل في مكتبه بالخرطوم، أن رحلة تهريب السوريين إلى مصر مليئة بالمخاطر التي تجرى خلال مراحلها الثلاث، بداية من السماسرة ومهمتهم إبرام الاتفاق مع المهاجرين، وتجميعهم في أماكن محددة ومن ثم تسليمهم لأشخاص آخرين يقومون بإيصالهم إلى المهربين في أماكن مخفية وسط الصحراء، مبيناً من خلال رصده للحالات المترددة عليه أن إحدى أهم نقاط تجميع المهاجرين أولئك، في مدينة أبو حمد بولاية نهر النيل شمال الخرطوم، ويتم ذلك داخل منازل فارغة وسط الأحياء يستخدمها المهربون، ومنها ينقل المهاجرون بواسطة طرف آخر إلى مغارات داخل الجبال في أطراف الصحراء، ليتسلمهم المهربون الذين ينقلونهم إلى مصر، سالكين طرقاً تمرّ عبر سلسلة من مدقات جبلية وسط الصحراء التي تشكل امتداداً لصحراء النوبة وتخلو تماماً من مظاهر الحياة، ولا يستطيع اختراقها سوى من لديهم خبرة واسعة من أجل عبور المسافة التي تصل إلى 1700 كيلومتر، في ظل تغيير مسارات الطُرق تجنباً لأجهزة الأمن، والتوقف ساعات طويلة للاختباء من ملاحقة حرس الحدود أو تعطل مركباتهم وأحياناً يتوه السائقون في الصحراء بعد هربهم وابتعادهم لمسافات طويلة من المسار المعروف.
ما سبق يؤكده عبد الجواد، مشيراً إلى أن سائق العربية اضطر للتوقف مرات عدة، بسبب المشاكل التي واجهتهم في الطريق، رغم أن المهربين لا يفضلون ذلك، خوفاً من مداهمة قوات الأمن لهم، وهددوهم بتركهم في الصحراء، بسبب التأخر الناجم عن إجهاض إحدى المهاجرات وإخفائها وزوجها حملها عن المهربين كي يسمحوا لها بالركوب معهم.
ولا يهدد المهربون المهاجرين بتركهم في الصحراء لإخافتهم فقط، بل من الممكن أن ينفذوا تهديداتهم فعلاً، بحسب ما تؤكده مصادر التحقيق من أن المهربين أخبروهم كثيراً أنهم قد يتركون المهاجرين في منتصف الطريق ليلقوا حتفهم في الصحراء، في ظل تزايد وتيرة التهريب والاتجار بالبشر عما كانت عليه قبل الحرب في السودان.
الحياة في مصر
سجلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر 148.655 فرداً من اللاجئين الواصلين من السودان منذ اندلاع الصراع في منتصف إبريل الماضي، 91% منهم من السودانيين، وجدولت مواعيد لتسجيل 271.457 لاجئاً آخرين، وقدمت المفوضية معلومات حول إمكانية الوصول إلى خدمات الحماية والمساعدة في مصر إلى حوالي 56.000 لاجئ وصلوا من السودان. بحسب التحديثات الأسبوعية الصادرة عن مكتب المفوضية بمصر في 14 و19 يناير 2024.
لكن تزايد الأعداد أدى كما يقول لـ"العربي الجديد" أربعة من السوريين الذين دخلوا مصر خلال يناير 2024، إلى أن ترجئ مفوضية اللاجئين تسجيلهم رسمياً في كشوفاتها حتى مطلع مايو/أيار المقبل نظرا لأعدادهم الكبيرة.
ويمضي السوريون الذين يصلون إلى أسوان بطريقة غير شرعية أيامهم في تخفٍّ عن أعين أفراد الأمن وخاصة المتواجدين في محطات حافلات النقل العام، إذ أن من يُضبط يُزج به في الحبس وقد يرحل إلى سورية، كما يقول عبد الجواد الذي قضى خمسين ساعة متخفيا حتى لا يقع في قبضة الأجهزة الأمنية المصرية في أسوان، وبذل جهده لمغادرتها نحو القاهرة بأقصى سرعة ممكنة، حتى يحص على موعد لتسجيله في المفوضية، ويقيد في سجلاتها ويتجنب أي إجراءات قد تتخذها الحكومة المصرية بحق الأجانب المقيمين على أرضها بطريقة غير شرعية.