يلقي الزلزال حملا ثقيلا على كاهل النازحين في الشمال السوري والذين يعيشون مأساة إنسانية منذ 12 عاما، إذ فاقم البناء العشوائي في المناطق المكتظة عدد الضحايا الذين هربوا من الخيام إلى مساكن هشة ليعودوا مرة ثانية إليها بحثا عن الأمان المفقود.
- يحاول النازح السوري أحمد سعيد القاطن في مخيم سجو، شمال حلب، قرب الحدود التركية، مساعدة المتضررين الذين خسروا منازلهم جراء الزلزال الذي ضرب قضاء بازارجيق في ولاية قهرمان مرعش، جنوبي تركيا، بتاريخ 6 فبراير/شباط 2023، وامتدت تبعاته إلى شمال غرب سورية المكدس بالنازحين.
ويعمل سعيد على توفير خيام تؤوي من انهارت منازلهم أو من غادروها خوفا من سقوطها على رؤوسهم جراء الهزات الارتدادية، خاصة أنها ذات هياكل وأساسات ضعيفة وتم بناؤها لتخليص النازحين من معاناة السكن في الخيام التي لا تقي من برد الشتاء القارس ولا من حر الصيف الشديد.
و"لطالما حلم النازحون الذين يسكنون الخيام بمنزل يعيشون فيه، لكن اليوم تغيرت الحكاية، سكان مدينة اعزاز في حلب يبحثون منذ الصباح عن خيمة، والكثيرون منهم ما زالوا في العراء وسط ظروف جوية وإنسانية غاية في الصعوبة"، كما يقول سعيد لـ"العربي الجديد".
وبلغ عدد الأبنية المنهارة بشكل كلي 360 بناء، و1000 مهدمة جزئيا، عدا عن آلاف المباني المتصدعة في مناطق شمال غربي سورية والتي لم يتسن حصر عددها حتى اللحظة، بحسب توثيق منير المصطفى، نائب مدير منظمة الدفاع المدني السوري للشؤون الإنسانية (الخوذ البيضاء)، والتي تعمل في مناطق سيطرة المعارضة السورية، مشيرا إلى أن عدد الضحايا ارتفع إلى 1400، إضافة إلى إصابة 2700 شخص (تحديث بيانات الضحايا ظهر 8 فبراير)، والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض، وتواصل فرق الإنقاذ عمليات البحث وسط صعوبات كبيرة وهطول أمطار غزيرة وحدوث هزات ارتدادية.
أسقف من ورق
ينتظر السوري المقيم في إسطنبول حسن محمد خبراً يطمئنه على شقيقه وأسرته التي كانت تقطن في بناء تم تشييده منذ خمس سنوات في مدينة سلقين بمحافظة إدلب، شمال غرب سورية، على بعد 7 كيلومترات من الحدود التركية.
كان البناء يتألف من خمسة طوابق هوت على رؤوس السكان جراء الزلزال، كما يقول محمد، موضحا أن فرق الإنقاذ المحلية والأهالي تمكنوا من إنقاذ البعض وانتشال جثث آخرين، لكن البحث تحت الأنقاض ما زال جاريا.
وتمّ الإبلاغ عمّا لا يقل عن 317 هزة ارتدادية منذ أن ضرب زلزال بقوة 7.7 درجات جنوب تركيا، ولا يزال الوضع خطيراً، إذ يبقى مئات الأشخاص محاصرين تحت الأنقاض في ظروف الشتاء الباردة، وتعد أكثر المناطق تضررا الأقرب إلى الحدود السورية التركية، مثل مدن الدانا وترمانين وعفرين في حلب، ومدينتي سرمدا وسلقين في إدلب، التي شهدت عمليات بناء كثيفة في السنوات الماضية، جراء حركة النزوح الكبيرة، كما رصد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية (أوتشا)، مشيرا إلى أن 4.6 ملايين شخص يعيشون في شمال غرب سورية، حوالي 90% منهم (4.1 ملايين شخص)، يعتمدون على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
وما يفاقم من المعاناة، كون معبر باب الهوى على الحدود التركية السورية الوحيد المتبقي الذي أذن مجلس الأمن باستعماله لتسليم مساعدات الأمم المتحدة، وفق أوتشا، التي لفتت إلى إفادة مصادر محلية بأن أحوال الطريق المؤدية إلى المعبر الحدودي معطلة، وبالتالي فإن الاستجابة عبر الحدود تعطلت مؤقتاً، كما أن مركز إعادة الشحن التابع للأمم المتحدة موجود في هاتاي، حيث تتم مراقبة المساعدات والتحقق منها وتحميلها في شاحنات كجزء من عملية مراقبة للأمم المتحدة قبل العبور إلى سورية.
وما زاد الطين بلة وفاقم الخسائر البشرية والمادية، أن غالبية المباني التي يقطنها النازحون شُيدت دون مراعاة معايير السلامة ودون أساسات قوية، إذ بنيت دون تراخيص أو تنظيم في ظل غياب سلطة الدولة، كما يقول عبد العزيز حمدوش، مدير مكتب الخدمات في المجلس المحلي لمدينة إعزاز، موضحا أن النازح بعد معاناة السكن في الخيمة، يبحث عن مأوى يحتمي به فيقوم بتشييد مسكن له ولأسرته ولكن بأقل التكاليف المالية نظرا لما يعانونه من شظف العيش، ولذلك لا يهتم أحد بتجهيز الأساسات التي تزيد من الكلفة المالية، كما تعتبر تلك المنازل مؤقتة حتى يعودوا إلى منازلهم في مدنهم وقراهم.
و"بالطبع لا تخضع المنازل التي تبنى في المخيمات وحولها لأي تنظيم وتبنى بشكل عشوائي ولا تحصل على تراخيص"، كما يقول حمدوش، موضحا أنه لا يمكن للمجلس أن يلزم نازحا يعمل على استبدال خيمته بغرفة هشة على إصدار ترخيص، في حين أن المباني المكونة من طوابق والتي تشيد في مناطق المعارضة الخاضعة للتنظيم ملزمة بالتراخيص كاملة حتى تكون آمنة ومناسبة للسكن.
ما سبق، يؤكده شهود عيان التقاهم "العربي الجديد"، ومن بينهم المصور مصطفى حسسيناتو، الذي يؤكد أن الأبنية الحديثة في الأتارب هي فقط التي انهارت، في حين كان تضرر الأبنية القديمة المشيدة وفق الأسس العمرانية السليمة أقل بكثير.
وتشارك نقابة المقاولين في الشمال السوري برفع الأنقاض، كما يوضح وليد ياسين، أمين سر النقابة، مشيرا إلى أنه في بلدة جنديرس التابعة لمنطقة عفرين في محافظة حلب بلغ عدد الأبنية المنهارة 62 بناء طابقيا، منها 25 بناء طابقيا كبيرا مأهولا، وما زالت كثير من الجثث تحت أنقاضها، بالإضافة إلى تضرر 100 بناء، بينها عشوائيات لنازحين.
وبلغ عدد العائلات التي أمست بلا مأوى نتيجة تضرر مساكنها بشكل كامل أو جزئي 2800 عائلة، إذ أحصى مجلس جنديرس المحلي 257 مبنى انهارت بشكل كلي، وقضى تحت أنقاضها 675 شخصا، حتى صباح 8 فبراير.
القصف والتكدس وطبيعة الأرض تفاقم عدد الضحايا
يؤكد المصطفى أن عدم وجود بنية تحتية جيدة زاد من تبعات الكارثة وآثارها المميتة، مشيرا إلى أن معظم المباني السكنية الجديدة غير مجهزة لمواجهة الزلازل، خاصة أنها أقيمت على أرض هشة تغطيها تربة رخوة، ما زاد من نسبة الدمار وصعوبة إسعاف المصابين، مؤكداً وجود مئات المدنيين العالقين تحت الأنقاض حتى لحظة إعداد التحقيق مع استنفار كامل لفرق الإنقاذ بهدف انتشال العالقين، لكن قلة الإمكانيات وعدم توفر المعدات المتطورة يصعب عمليات الإنقاذ ويطيل زمنها.
ويدل انهيار مبان طابقية بشكل كامل كما وقع في مدن الشمال السوري، على أن أساساتها تخالف الاشتراطات الفنية ومعايير السلامة والأمان، كما يؤكد بكري بكور، رئيس اتحاد نقابات المقاولين في الشمال السوري، مرجعا ذلك إلى مخالفات يرتكبها مقاولون بقصد الربح، وهؤلاء لا يراجعون المجالس المحلية التي تضم مكاتب فنية ومهندسين مختصين توفيرا للنفقات وتهربا من دفع مبالغ مالية تقلل من مكاسبهم المالية.
كما أن الكثافة السكانية المرتفعة كان لها دور أساسي في زيادة عدد الضحايا بين السكان في المنطقة، بحسب حمدوش، إذ تكدس النازحون في المدن القريبة من الحدود التركية بحثا عن الاستقرار، عدا عن وجود مبان متضررة بشكل كبير بسبب تعرضها للقصف في وقت سابق، مؤكدا على أن معظم المباني التي أصيبت بالقصف خلال السنوات الماضية وتمت إعادة ترميمها انهارت نتيجة الزلزال، لأنها لم تكن جاهزة لمواجهة مثل هذه الكارثة، كونها متصدعة وضعيفة، بينما كان سكانها مجبرون على البقاء فيها لعدم وجود بديل أفضل. ويشير حمدوش إلى أن المجلس المحلي لا يمكنه منع الناس من البقاء في هذه البنايات، لأن الخيار الآخر (الخيام) أكثر قسوة.
ما سبق تؤكده وفاء نجيب، الناشطة الميدانية، التي تعمل في مجال توثيق الأضرار الناتجة عن الزلزال في عفرين، قائلة: "رصدت تضررا وتهدما كبيرا لـ1500 منزل في امتداد شارع الفيلات بعفرين، ويرجع ذلك إلى تصدعها في السابق نتيجة تعرضها لقصف متكرر أدى لخلخلة كثير من الأبنية، بالإضافة إلى ذلك، فإن ازدياد الحاجة إلى مساكن دفع السوريين إلى بناء طوابق جديدة فوق الأبنية القديمة دون الأخذ بعين الاعتبار قدرة البناء على التحمل، إذ إن معظم القاطنين في هذه المنطقة من النازحين، وكثير منهم مجبر على السكن في بناء غير مكتمل"، ومن بينهم، روضة درويش، النازحة من الغوطة الشرقية، والتي تقيم منذ 3 سنوات مع عائلتها في جنديرس داخل مساكن غير مكتملة البناء، وفقدت تحت ركامها ابنة عمها مع أطفالها الستة، كما تقول بصوت متهدج في حديثها مع "العربي الجديد".
علاوة على ذلك، تفتقر المنطقة المكتظة إلى نظام تصريف مناسب لمياه الأمطار، وتتجمع المياه في أقبية المنازل، ما يؤدي لتآكل أساسات البناء وإضعافه أيضا، بحسب الناشطة نجيب.
إهمال كود البناء في منطقة زلزالية عنيفة
يدخل الشمال السوري وخاصة إدلب ضمن منطقة زلزالية نشطة، تعد امتدادا للفالق الزلزالي الأناضولي الذي يبدأ من وسط تركيا ويمتد باتجاه أنطاكية في محافظة هاتاي التركية وصولا إلى سهل الغاب في حماة السورية، كما أن مدينتي إعزاز وجرابلس في حلب تصنفان من المناطق ذات الشدة الزلزالية القوية، بحسب توضيح المهندس عدنان المبيض، الحاصل على درجة الماجستير في الهندسة الإنشائية الزلزالية والقيادي في تجمع المهندسين الأحرار التابع للمعارضة في الشمال السوري.
ورصد المبيض عبر عمله مخالفات خطيرة في عمليات التشييد وانتشار البناء العشوائي في الشمال السوري، وأرسلها إلى الحكومة المؤقتة مطالبا بالتصدي لهذه الظاهرة، إذ بنيت كثير من المنازل من الطوب فقط دون العناصر الهيكلية، مؤكدا على أن الوصول إلى مبنى مقاوم للزلازل يجب أن يشمل الجدران المقاومة والبيتون أو الباطون المصنوع من الإسمنت، وهذا موثق بالكود العربي السوري، أي أن وجود الأعمدة والهياكل فقط لا يمكن اعتباره كافيا للوقاية من الزلزال فكيف الحال إن كان البناء من الطوب فقط، بحسب توضيحه.
وتُشيد غالبية المباني في الشمال السوري دون وجود مهندسي الإنشاءات والمهندسين المدنيين، بالتالي فإن الالتزام بالمواصفات الفنية ضعيف جدا، بحسب المبيض، الذي كان مديرا لمخبر مواد بناء وأعدّ دراسة شاملة حول مواد البناء الموجودة في الشمال السوري، ووصل إلى نتيجة مفادها أن المنطقة تفتقر للمواد ذات المواصفات الجيدة، ويجب دعم الأبنية بمواد مثل الإسمنت والحديد التي يتم التخفيف من كمياتها لدى التنفيذ لتخفيف الكلف دون مراعاة أخطار الزلازل، مضيفا أنه من الناحية الإجرائية، كان المواطن قبل البناء يذهب إلى البلدية ثم يتم توجيهه للنقابة لعمل مخططات معمارية إنشائية تتضمن إضبارة زلزالية، استنادا إلى اشتراطات في الكود تقضي بأن الشخص لا يستطيع تنفيذ المبنى إلا بتطبيق اشتراطات الكود، وهذا ينسحب على المباني الحكومية والمدارس والمباني العامة والمشافي ومباني الإدارات العامة، إذ يتم إرفاق الإضبارة الإنشائية بالزلزالية، لكن هذه الإجراءات مفقودة حاليا ولا توجد أي جهة ملتزمة بها.
وبحسب ما رصده المبيض، تتحمل المنظمات الإغاثية الناشطة في المنطقة جانبا من مسؤولية انتشار البناء العشوائي، إذ تنافست على بناء مساكن للنازحين دون مراعاة كود البناء، حتى وصل الحال إلى حد أن تعلن إحدى المنظمات أنها تؤمّن بناء 40 مترا بمبلغ 1200 دولار، فيما تعلن منظمة منافسة عن بناء 45 مترا بمبلغ 1250 دولارا، وهذا التنافس الشديد على أساس القيمة المادية دون أي اعتبارات للمواصفات الفنية أدى إلى انتشار الأبنية المخالفة للمواصفات الفنية، على حدّ قوله، مضيفا أن تلك المنظمات باتت تعمل أيضا في مشاريع الصرف الصحي وبناء خزانات المياه، وهو ما قد تترتب عليه مخاطر جمّة كون تنفيذها يخضع إلى معايير فنية مشددة منعا لانهيارها، ما قد يؤدي إلى تدمير هائل.
العراء بات أكثر أمناً
أعلنت حكومة الإنقاذ المسيطرة في محافظة إدلب استنفار كوادرها كافة لتلبية احتياجات النازحين وتحسباً لأي وضع جديد، كما فتحت الحكومة السورية المؤقتة التي تدير مناطق سيطرة الجيش الوطني في شمال حلب مبانيها وجامعة حلب لاستقبال المدنيين ليستقروا بها. لكن غالبية العائلات تفضل البقاء في المناطق البعيدة عن الأبنية خوفا من حدوث هزات جديدة، وتتجه إلى الأماكن المفتوحة سيرا على الأقدام في ظل ظروف جوية غاية في الصعوبة مع هطول غزير للأمطار ودرجات حرارة متدنية جدا وصلت إلى درجتين في محافظة إدلب، بحسب النازح السوري هاشم عبد الكريم، الذي يسكن في ريف محافظة إدلب.
ويلقي الزلزال حملا جديدا على كاهل السكان الذين يعيشون مأساة إنسانية مستمرة منذ 12 عاما، حتى أن الكلمات تعجز عن وصف الأمر، بحسب مدير عمليات اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمنطقة الشرق الأدنى والأوسط فابريزيو كاربوني، الذي يقول في بيان أصدرته اللجنة في السابع من فبراير وصلت إلى "العربي الجديد" نسخة منه: "مشهد العائلات التي اضطرت إلى مغادرة منازلها في هذا البرد القارص للاحتماء في شوارع غير آمنة في منتصف الليل، شديد القسوة، إذ نزحت في الأصل أكثر من مرة، وتنفطر القلوب لمشهد انهيار المباني في حلب مثل قطع الدومينو، بعدما أضعفتها سنوات الحرب الطويلة".
وتحاول الكوادر الطبية تقديم ما يمكن لمساعدة المصابين رغم عدم وجود مشاف ميدانية كافية، كما أن المشافي الموجودة تعجز عن استقبال المصابين بسبب العجز والنقص الكبير في كل النواحي، بحسب ما يقوله المسعف خالد وليد، إذ توجد في محافظة إدلب سيارة إسعاف واحدة لكل 30 ألف مدني، كما يوجد 54 مشفى معظمها ميدانية ومجهزة بمعدات بسيطة تخدم ما يزيد عن مليونين و500 ألف مدني في محافظة إدلب فقط التي تديرها حكومة الإنقاذ، أما بالنسبة لمناطق ريف حلب فتوجد لكل 15 ألف مدني سيارة إسعاف واحدة، ويوجد 26 مشفى تخدم ما يزيد عن مليون و500 ألف مدني.