يخسر أردنيون أرواحهم تحت أنقاض مبان سكنية تتهاوى بسبب أعمال صيانة عشوائية دون إشراف هندسي، وإهمال عمليات الترميم بشكل كامل، وسط غياب آلية للمراقبة واعتماد الجهات المختصة على بلاغات السكان في حال شعورهم بالخطر.
- اضطر الأردني محمد اكريّم إلى إخلاء عمارته السكنية المشيدة منذ عام 1970 في شارع الهاشمي وسط إربد شمال المملكة في مارس/آذار عام 2018، بعد وقوع انزلاقات في التربة أسفل البناء نتيجة حفر أساسات مجمع تجاري على بعد عدة أمتار من الموقع الذي كان يؤوي 25 شخصا وخرجوا منه في "لحظات لا تنسى من الخوف"، كما يصفها قائلا: "اشتكيت إلى بلدية إربد ولجنة السلامة العامة في المحافظة، والتي أوصت بالإخلاء خشية انهيار البناية بينما استُكملت أعمال تشييد المجمع الجديد".
في حالة اكريم، تجنب وقوع الكارثة بإخلاء العمارة، بينما يهدد الخطر أسرة حنين الطراونة التي تسكن وأطفالها الأربعة منزلا قديما في بلدة المنصورة بلواء بني كنانة في إربد، وتبرز من سقف البناء القضبان الحديدية بعد أن تهاوت قصارته، كما واهترأت التمديدات الكهربائية، وحذرها الدفاع المدني شفويا خلال الشتاء الماضي من احتمالية سقوط السقف وأنه لا بد من إخلائه، لكن ضيق حالها يمنعها من الانتقال.
وتتفاقم خطورة المباني السكنية القديمة التي تشكل 20.4% من إجمالي مباني المملكة السكنية بحسب بيانات دائرة الإحصاء العامة الواردة في التعداد السكاني لعام 2015، جراء أعمال الصيانة العشوائية التي تتم دون إشراف هندسي متخصص، أو إهمال المالك للترميم كليا ما يعرّض حياة السكان للخطر وأسفر عن خسارة أرواح 19 ضحية تحت أنقاض البنايات التي تهاوت عليهم، وأصيب 17 آخرون، في حادثتي انهيار أولهما وقعت في 4 يوليو/تموز 2018 في حيّ الغويرية في محافظة الزرقاء شرق العاصمة، والثانية في 13 سبتمبر/أيلول 2022 في اللويبدة في عمان، بحسب بيانات مديرية الأمن العام التي حصلت عليها "العربي الجديد".
العبث العشوائي بالمباني القديمة
تلعب عوامل عديدة دورا في وصول البناء إلى مرحلة من التهالك ليهدد حياة ساكنيه، أولها العمر الافتراضي (للعقارات الخرسانية من 50 إلى 100 عام) بحسب توضيح نائب نقيب المهندسين الأردنيين فوزي مسعد، قائلا: "ليس بالضرورة أن يصل المبنى لحالة توجب الهدم بعد 50 عاما، فهذا يعتمد على عوامل أهمها المواد المستعملة وصيانته الدورية، هناك مبان تبقى مستغلة لأكثر من 50 عاما بينما يمكن أن تسوء حالة أخرى بعد 10 أعوام من إنشائها بسبب عدم إتقان البناء والتصميم الإنشائي، إلى جانب الصيانة العشوائية التي تجرى بواسطة عاملين في الإنشاءات دون إشراف هندسي، لتأتي النتيجة عكسية على جسم البناء كما حدث في حادثة اللويبدة حين انهارت بنايتان قديمتان الشهر المنصرم نتيجة أعمال صيانة أدت إلى زعزعة الأساسات".
تتركز المباني القديمة والمهددة بالسقوط في عمّان وإربد والزرقاء
ولم تكن كارثة اللويبدة الأولى، إذ انهارت بنايتان قديمتان في 19 يناير/كانون الثاني عام 2017 في حيّ جبل الجوفة، وهو أحد جبال عمان السبعة، الذي تتكدس فيه المباني القديمة، ونجا السكان في اللحظة الأخيرة، إذ تم إخلاؤهما في اللحظات الأخيرة، بحسب بيان صحافي أصدرته أمانة عمان عقب الحادثة وذكرت فيه أن طبوغرافية المنطقة جبلية متدرجة وتقع تحت مستوى الشارع، وتم إنشاء طوابق إضافية بشكل غير قانوني، وصلت إلى 6 أدوار في بعض مباني المنطقة دون مراعاة عمرها الذي يعود إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
وتبدو خطورة الصيانة العشوائية في وقائع حادثة الزرقاء، إذ انهار البناء نتيجة أعمال في الطابق الأرضي بعدما أزال المالك الجدران الداخلية، ما أدى إلى ضعف البناء المقام منذ سبعينيات القرن الماضي، لينهار بالكامل، وهو ما يصفه مدير المناطق في أمانة عمان الكبرى حسام النجداوي، بـ "العبث العشوائي"، قائلا :"يؤدي الأمر إلى كوارث نتيجة عدم التزام المالك بمتطلبات العمل الإنشائي، وهي رخصة لغايات مزاولة العمل وفق مخططات هندسية معتمدة من نقابة المهندسين عند إجراء اي إضافة أو تعديل على البناية، بحيث يقدم المالك المتطلبات تلك لأمانة عمان الكبرى إن كان داخل نطاق العاصمة لمنحه موافقة، وبموجب القانون فإن المالك هو المسؤول الأول عن متابعة أي علامات خطورة يمكن أن تسبب أذى للسكان ليقوم باتخاذ الإجراء المناسب سواء بإخلاء القاطنين نهائيا أو مؤقتا إلى حين عمل صيانة ويكون ملزما عقب ذلك بإحضار شهادة سلامة منشأة من مكتب هندسي مختص بالتنسيق مع الجهة المختصة في مكتب الحاكم الإداري".
حجم الخطر في المملكة
بلغ عدد المباني التقليدية في المملكة (صفة إشغالها للسكن فقط) 684718 مبنى بنسبة 86.1% من إجمالي مباني المملكة وعددها 794949 مبنى، وبحسب تعداد عام 2015 (آخر تعداد أجري في المملكة) فإن مجموع المباني التي كانت سنة المباشرة بوضع الأساس لها عام 1980 وما قبل وكانت للسكن فقط في المملكة بلغ 139503 مبان من مجموع المباني السكنية، وتقول دائرة الإحصاء العامة في ردها على أسئلة "العربي الجديد"، إنها: "اعتمدت عام 1980 كمعيار لحساب عمر الأبنية السكنية، وبلغ مجموع المباني السكنية في محافظة العاصمة 192661، منها 38777 مبنى يعود بناؤها إلى عام 1980 وما قبله، أي أن 20.1% من المباني السكنية في العاصمة تجاوز عمرها الأربعين عاما".
وتعتبر محافظتا إربد والزرقاء من الأماكن التي تتركز فيها البنايات السكنية القديمة أيضا كما تكشف بيانات الإحصاء، إذ يوجد 15986 مبنى في إربد يعود بناؤها إلى الأعوام بين 1980 و1984، وفي الزرقاء وصل العدد في ذات الفترة إلى 13321 مبنى سكنيا.
وتقدّر بلدية الزرقاء عدد المباني الآيلة للسقوط في المدينة بـ 350 مبنى، وعملت بالتعاون مع لجنة السلامة العامة في المحافظة (المسؤولة عن فحص سلامة الأبنية) على إخلاء نسبة كبيرة منها، وجزء آخر هجره قاطنوه خوفا من الخطر، بحسب إفادة مساعد محافظ الزرقاء ورئيس لجنة السلامة العامة أحمد الجبور، والذي أوضح أن أحياء قديمة في المدينة مثل الغويرية وحي جناعة وحيّ رمزي أبنيتها أنشئت قبل أكثر من 50 عاما، وغالبيتها شُيّدت دون إشراف هندسي، وفي حال قرر مهندسو اللجنة أن أيا منها يشكل خطورة على ساكنيه يصار إلى إخلائها، إذ تم إخلاء 10 منازل قديمة منذ منتصف أغسطس/آب وحتى نهاية سبتمبر الماضي، وانتقل السكان لدى أقاربهم بشكل مؤقت، مشيرا إلى أن الإجراء المتبع بهذه الحالات هو التأكد من إخلاء المبنى، وفي حال إجراء الصيانة تعود اللجنة للكشف عليه للتأكد من سلامته، وبعدها يسمح للسكان بالعودة إليه، وفي حال تبين أن المبنى آيل للسقوط يتم إخلاؤه وتحويل قاطنيه إلى وزارة التنمية الاجتماعية لمساعدتهم، ووصل مجموع طلبات فحص المباني القديمة التي تلقتها البلدية إلى 200 طلب منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية أيلول الماضي، وتبين أن الضرر في بعضها يقتصر على سقوط شرفة البناء، وأخرى بحاجة لصيانة عادية، و10 تم إخلاء سكانها احترازيا بالتنسيق مع مكتب الحاكم الإداري.
20.4 % من مباني الأردن السكنية يزيد عمرها عن 40 عاما
وفي محافظة إربد، قررت لجنة السلامة العامة إخلاء 4 مبان قديمة خلال شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين تزيد أعمارها على 30 عاما لاحتمالية انهيارها، كما طلبت اللجنة من ملاك 21 منزلا من أصل 100 منزل تم فحصها إحضار تقارير من مكاتب هندسية مرخصة، لتحديد وضعها من الناحية الفنية والهندسية وفي حال أظهر التقرير الفني أنها تشكل خطورة على حياة قاطنيها سيتم إخلاؤها، بحسب إفادة مساعد محافظ إربد لشؤون السلامة العامة عمر القضاة، كما قررت لجان السلامة التي شكلتها دائرة الإعمار في أمانة عمان الكبرى إخلاء 16 مبنى، بعد فحص 404 مبان منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية أغسطس الماضي، كما يقول ناصر الرحامنة الناطق الإعلامي لأمانة عمان الكبرى.
الفحص مقترن بالشكوى
تحتاج المباني القديمة إلى صيانة وترميم وإعادة تأهيل باستمرار وفق النجداوي، قائلا إن "الأردن بأمس الحاجة لفحص المباني القديمة لكن العملية تتطلب خطة وآلية عمل واضحة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، ويحتاج الأمر إلى جهد وطني كبير ويكلف مبالغ طائلة"، بينما تعمل الأمانة وفقا لما هو متاح وتتمثل الآلية بتوجه فرقها إلى البناية المتضررة في حالة الإبلاغ من سكان البناية أو المجاورين لها عن أعمال هدم وردم قريبة من الموقع وتتحقق ما إذا كانت أوراق العمل سليمة وصحيحة وموافق عليها من قبل الأمانة وتسمح بإجراء التعديلات التي تتم بالموقع.
وفي المحافظات، تتولى لجنة السلامة العامة فحص المباني بعد شكاوى السكان، وفق توضيح القضاة، وهو ما يؤكده مساعد رئيس بلدية الزرقاء لشؤون المناطق زياد المعايطة، قائلا إن: "البلدية ليست جهة فنية لتقرر بشأن سلامة المباني وإنما لجنة السلامة العامة بالمحافظة كجهة مختصة تضم في عضويتها البلدية والأشغال العامة والحاكم الإداري والدفاع المدني والأمن العام استنادا إلى المادة 16- أ بند 7 من قانون الإدارة المحلية رقم 22 لسنة 2021، التي تنص على أن "يتم تحديد الأبنية المتداعية ومخاطبة المجلس البلدي لاتخاذ القرار المناسب بشأنها وتنفيذ قراراته المتعلقة بهدم هذه الأبنية والقرارات المتعلقة بالأبنية المضرة بالصحة العامة، أو التي تنبعث منها روائح كريهة على نفقة مالكها أو شاغلها بعد التأكد من إنذاره وذلك بالتنسيق مع الحاكم الإداري".
لكن ارتباط الشكوى بالفحص فقط، يثير مخاوف السكان ومنهم السبعيني أحمد سليم الذي يسكن حي الغويرية في الزرقاء منذ 40 عاما، قائلا إن: "الحي قديم ومثل هذه الأحياء تحتاج إلى خطة واضحة للكشف على مبانيها تحت إشراف حكومي تجنبا لحصول أي مخاطر مستقبلية".
ويعتبر مسعد أن كارثة اللويبدة يجب أن تكون درسا للجميع والحل بالتركيز على التوعية بين المواطنين بحيث لا يسمحون بإجراء أي تعديلات إلا تحت إشراف هندسي، مؤكدا أن الدولة لا تستطيع السيطرة على المشكلة، وكل مواطن مسؤول عن مكان سكنه بصيانته والحفاظ على ديمومته، لكن الغالبية من أصحاب المنازل والبيوت يلجأون إلى العمال لإجراء التعديلات دون مخططات هندسية لتوفير المال، والجهل أحيانا بالمخاطر التي قد تترتب على ذلك، ومن بينهم خليل كاشف، الذي أجرى صيانة لبنايته القديمة المقامة منذ السبعينيات في وسط البلد بالعاصمة، بعد الاتفاق مع عدد من عمال البناء على تنفيذ القصارة ومعالجة الجدران لتقويتها، موضحا أنه لم يلجأ إلى التعاقد مع أحد المكاتب الهندسية لأن الكلفة المالية ستكون أعلى بكثير.