حلويات غمراسن:هدية جنوب تونس "الأحلى" للعالم

23 يونيو 2015
حلويات غمراسن بهجة رمضان التونسي (Getty)
+ الخط -
ذات يوم بعيد، مغرق في التاريخ، ورث رجل أراضيَ جبلية بديعة في الجنوب التونسي، سمّيت غمراسن، يقال إن أصلها بربري وتعني "سيّد القوم" أو لعلّه عربي مشتقّ من "غمر رأسه".

صحيح أنّ غمراسن، البلدة الجبلية شهيرة بآثار الديناصورات المكتشفة في جبالها ورسوم الإنسان البدائي في كهوفها، ولكّنها أيضاً شهيرة بحلوياتها من "الزلابية والمخارق والمقروض الغمراسني وأذن القاضي والبانان والصمصة والفطاير الحلوة"، التي تعتبر علامات مسجّلة وحصرية للبلدة في تونس والعالم، والتي، لأجلها يقول كريم الغول، القادم من مدينة مدنين الجنوبية، إنّه مستعدّ أن يقصدها كلّ يوم في رمضان، مهما بعدت المسافة، ليزيّن سفرة الإفطار والسهرة بحلوياتها، التي لا طعم يضاهيها، وعلى غرار كريم المئات من مواطني المدن والبلدات بالجنوب التونسي، وحتى بقية أصقاع تونس.

حكاية الزلابية
سالم التيس، هو أحد أصحاب محلات الحلويات في غمراسن، يمارس المهنة، التي ورثها عن أبيه وجدّه، منذ نحو 40 عاماً، يخبرنا أنّ الزلابية من أشهر حلويات البلدة، فهي لذيذة وسعرها في متناول الجميع، ويسترسل في ذكر مصدر اسمها الفريد قائلاً: "أطلق الاسم أحد حرفيي غمراسن على شكل من الحلويات اخترعه بالصدفة، حين تصرّف في كمية قليلة من عجين الفطائر وضعها في طاجين القلي، على شكل خيوط رقيقة، غمسها بعد نضجها في سائل سكري، فنتج عنه هذا النوع من الحلويات، اختار لها اسم "زلّ بي"، أي أنّ عجين الفطائر زلّ به فأوقعه في خطأ وحرف الاسم لاحقاً ومع السنين ليصبح زلابية.

بفخر يؤكّد أنّ كلّ "زلابيات العالم" مصدرها غمراسن، وحتى لما سألناه عن سرّ وجودها في دول الخليج العربي والشرق الأوسط، أصرّ على أنها تنقلت عبر أجيال حلوانيي غمراسن نحو هذه البلدان، ولم يعترف برواية الأشقاء الخليجيين التي تقول إنّ الزلابيا وفدت إليهم من بلاد فارس والهند.

إقرأ أيضاً: مطبخ رمضان التونسي.."قفّة" كريمة ومائدة عامرة

أما "مقروض" غمراسن فلا مثيل له حتى في تونس نفسها، وفق التيس. مكوّنه الأساسي السميد والتمر، ورغم أنّ مدينة القيروان تختصّ به ويعتبر "مقروض القيروان" الشهر تونسياً، إلا أنّه يختلف في شكله ومكوّناته عن مقروض غمراسن، فالأخير أكبر من حيث الشكل، وهو يتميّز بانه على شكل حرف G باللغة اللاتينية، باعتباره الحرف الأوّل للاسم اللاتيني لغمراسن منعاً للتقليد، كما يقول التيس.

حلوى "مارادونا"
يفتخر حلوانيو غمراسن بمهنتهم، ويعتبرونها من الميزات الحميدة التي يسعون للمحافظة عليها، وتوريثها لأبنائهم، بعدما ورثوها عن أجدادهم. ويقول مبروك عشعش، أحد شيوخ الحلوانيين، الذي يمارس هذه المهنة منذ سنة 1948، إنّ حبّ المهنة هو سرّ إتقانها، وهو ما يجعل أهل غمراسن رائدين في هذا المجال، وهو مصدر اعتزازهم بها.

ويتحدث أيضاً عن تجربته الثرية في الجزائر وتونس العاصمة، قبل أن يختار سنة 1983 الاستقرار في غمراسن، بعد مسيرة أعطى على امتدادها الكثير للمهنة وابتكر خلالها حلويات جديدة منها "مارادونا"؛ وهو نوع من الحلويات الرمضانية أسماه بهذا الاسم لأنه نوع صغير وقصير، ويمتاز بخفة حركته في "الطاجين" أثناء القلي؛ وهي نفس صفات اللاعب الأرجنتيني.
العم مبروك اخترع أيضاً اليويو الصغير، وهو نوع من الحلويات دائري، والشبيكة، وزلابية قسنطينة وأسماها هكذا لأنه ابتكرها اثناء عمله لسنوات طويلة في هذه المدينة الجزائرية.
وعن سر عودته الى غمراسن وتفضيله العمل فيها، يقول إنه اشتاق إلى أجواء البلاد ومل الغربة والبعد عن الأهل والوطن، مفضلا الاستقرار العائلي على الربح المالي الوفير الذي يتيحه العمل في الخارج.

شهرة عالمية
تصدّر مدينة غمراسن حلوانييها وحلوياتها إلى عديد البلدان العربية والغربية، ففي فرنسا حلويات غمراسن لا تغيب عن موائد العرب المقيمين هناك، وتوجد متاجر حلوى خاصة في الأحياء ذات الكثافة العربية، وخاصة المغاربية الكبيرة، وكذلك الشأن في ألمانيا وإيطاليا، أما في أميركا الشمالية فالتجربة ما زالت في بداياتها، ولم تنتشر كما هو الشأن في أوروبا.
لكن، تبقى الجزائر من أكثر البلدان التي توجد فيها حلويات غمراسن، إذ يُقبل الجزائريون بشكل كبير على هذه الأصناف، وينتشر في مختلف المدن الجزائرية حلوانيون من غمراسن، يقيمون هناك منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

ومن خصائص المحلات الغمراسنية في الجزائر تركيزها على أنواع محدودة من الحلويات، هي الزلابية والمخارق والفطاير الحلوة، التي تلقى رواجاً كبيراً عند الأشقاء في الجزائر.
ونظراً لخصوصية عمل هذه المحلات الغمراسنية في الجزائر، خلال شهر رمضان، وكثرة الإقبال عليها، عادة ما تتوجّه تعزيزات من اليد العاملة المختصّة من غمراسن، للعمل فيها أثناء شهر الصيام، وتحدث هجرات عائلية من غمراسن إلى المدن الجزائرية تتواصل على امتداد الشهر.

الحلوى والسمر
وبالنظر إلى تخصّص مدينة غمراسن في إنتاج الحلويات التقليدية المرتبطة بشهر رمضان، تشهد متاجرها المختصّة في غمراسن والمدن المجاورة، وفي كلّ جهات البلاد حركة لافتة قبل الشهر الكريم وخلاله، حيث تحوّل اختصاصها من صنع الفطائر والأكلات السريعة إلى إنتاج الحلويات الرمضانية، وتتحوّل خليةً لا تهدأ يتواصل العمل فيها على امتداد 24 ساعة لصنع ما لذّ وطاب من أصناف الحلويات، كما يعود إليها العمال، بعد هجرها إلى مهن أخرى، تلبيةً لارتفاع الطلب، ولرغبة الحرفيين في قضاء مسامرات رمضان برفقة حلويات هذه المدينة.

إقرأ أيضاً: "البسيسة" غذاء الرعاة الأفارقة وحلوى بداية النهار

وأكّد أغلب من تحدّثنا إليهم من رواد هذه المتاجر، أنّ حلويات غمراسن والمناطق المجاورة لها، تبقى الأفضل لديهم، كما أنّ زيارة هذه المدينة تمثّل مناسبة لتمضية الوقت مرفقة بمتعة التبضّع، وقال كريم الغول إنه تعوّد على زيارة غمراسن من مدينته التي تقع على بعد نحو 40 كلم، رفقة مجموعة من أصدقائه لغايتين: لأجل شراء حلويات رمضان وتمضية الوقت في المساءات الرمضانية الطويلة.
دلالات
المساهمون