فمن ناحية، اعتمدت الأغنية الصنعانية على قاعدة كلاسيكية لم تشهد تغيرات، تتمثّل بثيمة لحنية واحدة تظل تتكرّر، أو ثيمتين لحنيتين تشهدان ثلاث مراحل إيقاعية بطيئة: متوسط وحتى السريع أو الأسرع. وكثيراً ما تكون الثيمة اللحنية الأخرى تغييراً في الفكرة الأولى، وهذا النظام مرتبط بأزمنة لم تكن فيها تسجيلات، وغايته خلق إشباع لحني تطريبي، وحتى يجري التصعيد عبر ما يُسمى قلبة تتسم بالتسريع الإيقاعي، والانتقال إلى نشوة راقصة تنتهي بأنماط محدودة من القفلات.
يمتد الغناء الصنعاني إلى ما يزيد على 400 عام، وتحديداً إلى فترة ظهور الشاعر الحميني الشهير محمد بن شرف الدين، الذي برز في النصف الثاني للقرن السادس عشر. ولأنه أحد الأشكال الغنائية العربية الأعرق، ضمته اليونيسكو إلى قائمة التراث العالمي. فخلال الأربعمئة عام السابقة، شهدت صنعاء حملتين عسكريتين تركيتين، ومن المؤكد أنهما تركتا أثراً ثقافياً، على الأقل من خلال المارشات العسكرية التي التصقت بجيوش الدولة العثمانية.
غير أن النسيج اللحني الصنعاني العام ظل يمنياً خالصاً، لم يشهد تطوراً جوهرياً. فالأغلب أن المؤثرات الخارجية اقتصرت على تسلل ألحان جرى هضمها في أشكال محلية. ومن غير الممكن تحديد السمات التي ألقت أثرها على الغناء الصنعاني.
في كتابه المهم، "شعر الغناء الصنعاني"، يشير الأكاديمي اليمني محمد عبدة غانم إلى وجود ملامح لحنية تركية وإيقاعية في أغنية "طرب سجوعة وكرر" وأقدم تسجيل لها بصوت علي أبوبكر باشراحيل، أحد أساطين الغناء الصنعاني القديم. ويمكن ملاحظة ذلك، وخصوصاً في المدخل الإيقاعي لصوت القنبوس. لكن هذا الأثر يبدو أشد وضوحاً في أغنية "معشوق الجمال"، بصوت محمد الماس، وليس بالضرورة أن يكون التأثير تركياً، لكنه مقارنة بالألحان الصنعانية التقليدية يبدو أكثر إنشادية، وكأن الإلهام اللحني للأغنية أتى من مكان آخر.
ما يلفت الانتباه أيضاً، لحن زامل "خيلت براق لمع"، الذي أدّاه إبراهيم الماس، بمصاحبة العود على إيقاع شبيه بالمارش. يعود الزامل إلى فترة حصار فيضي باشا، بجيش مدعّم بالمدافع، وردت القبائل على حصار فيضي باشا بهذا الزامل. نتساءل أيضاً عمّا إن كانت القبائل قد حاكت لحن مارش تركي بصورة تلقائية.
واقتصر التأثير التركي بصورة محدودة في لحن المارشات، وربما بعض الألحان الأخرى، من دون أن يمتد إلى صناعة الموسيقى، مثل إدخال آلة العود، إذ ظل الغناء خلال تلك الفترة مرتبطاً بآلة القنبوس (عود صغير ذو أربعة أوتار).
لا يتيح القنبوس سوى 11 درجة نغمية، وهو ما حدد الغناء ضمن أوكتاف ونصف من دون بلوغ أصوات المغنين الذروة، بحسب جان لامبير المستشرق الفرنسي المتخصص بالغناء اليمني. هذا الأمر ربما خرقته الأشكال الغنائية اليمنية الأخرى، مثل الأهازيج، لاعتمادها على مصاحبة إيقاعية.
من المحتمل أن صناعة العود كانت موجودة خلال العهد الرسولي الذي امتد بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وهي الفترة التي ظهر فيها قالب الموشح أو القصيدة الحُمينية، ما لم تكن جاءت في فترة الوجود الأيوبي التي سبقتها مباشرة، باعتبار أن أول قصيدة حُمينية معروفة في اليمن "وانسيم السحر، هل لك خبر" منسوبة إلى شاعر مصري هو ابن سناء المُلك الذي عاش في العهد الأيوبي. بينما أول قصيدة حُمينية معروفة تعود إلى شاعر يمني، منسوبة إلى أحمد بن فليتة، الذي عمل في بلاط الدولة الرسولية في تعز، وكُتبت بخليط من الفصيح وعامية مدينة تعز، لهذا لم تظهر في الأغاني الصنعانية.
شملت الأغنية الصنعانية نوعين من الشعر: حكمي؛ أي العربي الفصيح، وحُميني، وهو خليط من العامية والفصحى المتحررة من الإعراب. وحُميني: نسبة إلى قرية الحُمينية بحسب بعض الآراء، وهي قرية يمنية موجودة في منطقة تهامة. كذلك إن الحكمي نسبة إلى قبيلة تهامية، وهذا على علاقة ببروز شعراء في فترة مبكرة ينتسبون إلى منطقة تهامة. وربما ارتبط الأمر بازدهار الغناء في بلاط النجاحين الذين حكموا تهامة واتخذوا زبيد عاصمة لهم، وهي الفترة التي ذاع فيها أسماء مغنين يمنيين خلال القرون الوسطى. وعلى الأرجح انتقلت بعض التقاليد الغنائية إلى البلاط الرسولي مع ظهور الموشح، إلى أن استقرت أخيراً في صنعاء ولفترة طويلة.
وتثير أسطورة محلية بعض تلك الروابط، وإن دارت حول كيفية انتقال القصيدة الحُمينية إلى أول شاعر حُميني صنعاني، أو كوكباني، هو محمد بن شرف الدين، وينتسب إلى عائلة حاكمة زيدية، فجده الإمام شرف الدين، وعمه الإمام المطهر بن شرف الدين. وبحسب الأسطورة، فإن الشاعر أبو بكر المزاح، وهو شاعر عاش قبله بما يزيد على مئة عام زاره في المنام شاعر حُميني عاش قبله بأكثر من مئة عام وعاصر آخر الحكام الرسوليين، ولقنه تعاليم القصيدة الحُمينية. لكن محمد بن شرف الدين أدخل في أواخر القرن السابع عشر شكلاً باروكياً محلياً للموشحات الحُمينية، مسبوكة بالمحسنات البديعية.
وعلاوة على وجود شعراء حمينيين ينتسبون إلى الأسر الحاكمة، كان عملاقان آخران في القصيدة الحُمينية يعملان في مناصب رفيعة، هما العنسي والآنسي؛ إذ استطاعت أن تعيش وتزدهر في حماية النخب الحاكمة في مناطق الحكم الزيدي في اليمن، وتنكمش نتيجة تعرضها لقمع الأئمة الزيود.
حتى إن بعض المغنين وجدوا ملاذاً من قمع بعض الأئمة عند الأتراك، في فترة وجودهم. ويستشهد مؤلف كتاب "شعر الغناء الصنعاني" بمخطوطة "سفينة كولان" لعيسى بن لطف الله؛ إذ إنه في الفترة التي عاش فيها الشاعر الحُميني محمد بن شرف الدين، بحسب المخطوطة، كان الحاكم التركي في صنعاء يقيم حفلات موسيقية يستضيف فيها مغنين محليين.
وربما كانت بين الأغاني المُقدمة هناك قصائد لذلك الشاعر، بينما كان عمه الإمام يقود حرباً ضد الحاكم التركي. وظهر شاعران من أصول تركية عاشا بعد خروج أول استقلال يمني من الحكم التركي، أحدهما حيدر آغا. وهو صاحب قصيدة تقول "كم بدور صنعاء بدور" وفيها جناس تام: أي كم في منازل صنعاء أقمار. وقيل إن آغا كان عازفاً ويعرف بالتلحين، وربما أدخل ألحاناً تركية إلى الغناء الصنعاني.
عندما واجه الأتراك ضغطاً من القبائل بداية القرن العشرين، وتعرض المغنون لاضطهاد الإمام يحيى حميد الدين، هاجر كثير منهم إلى عدن، ووجدوا فيها الرعاية، ومع ظهور التسجيلات في ثلاثينيات ذلك القرن، حوفظ على كثير من الألحان الصنعانية التي لم يعد بعضها معروفاً في صنعاء نفسها.
ففي السياق العام، ظلت الأغنية الصنعانية شكلاً فنياً عبّر عن ذائقة نخب الحُكم، فكانت بشكلها العام اشتقاقاً عن غناء القرون الوسطى في اليمن الذي انتقل من بلاط إلى آخر ومن نُخب حاكمة إلى أخرى. إلا أنه ظل يتأثر ببيئة المنطقة التي تحتضنه، وبلهجاتها.
يشير محمد عبده غانم إلى أن الغناء الصنعاني ظل سائداً في اليمن لفترة طويلة، ففي عدن ظلت الأعراس تبدأ بأغانٍ صنعانية حتى الثلاثينيات، وذلك لكونه الغناء الراقي في اليمن، مقارنة بالأشكال الأخرى. تلك المركزية تعرضت للمزاحمة من الداخل عبر الغناء اللحجي والحضرمي، ومن الخارج من خلال انتشار الأغاني المصرية والهندية. فالقرن العشرون شهد محاولة للخروج عن النظام القروسطي للغناء الصنعاني، وإن كان محتفلاً بأسلوب باروكي محلي يعتد بالزخرف والتطريب، وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين المواكب لثورة سبتمبر، شهدت الأغنية الصنعانية تثويراً من داخلها نفسه.
تلك العلاقة بين التأثير السياسي والغنائي، ربما حضرت اليوم في مركزية مختلفة استعادت صيغ بدائية مثل الزوامل، وهو نشيد الحرب الخاص بالحوثيين، ولم يقتصر انتشارها على مناطق سيطرة الحوثي. وأخيراً عاد الغناء الصنعاني ليطغى انتشاره مع بروز جيل من المغنين الشباب الذين يقدمون خليطاً من أغاني التراث الصنعاني وأغانيهم الخاصة. فالغناء في اليمن أيضاً شهد مرحلة تراجع من عصر الثورة إلى الحنين، وقفت بينهما عهد صالح تعبيراً عن مرحلة ركود فني وثقافي.