غزّاويّات: هويّتي (3)... طفلة تبحث عن قماش لعلم فلسطين

01 اغسطس 2014
أكثر من حكاية في عينيها وتحت خيمتها(محمود الهمص/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

ولدتُ فلسطينيّة. هذا لا شكّ فيه. أمي وأبي فلسطينيان من قرية قيساريا المهجَّرة في عام 1948. مكان ولادتي الناصرة، ونشأت في حيفا، وضاعت منّي لفترة ملامح هويّتي الفلسطينية،. وتبنّيت في طريق الوصول إليها هويات لا تمتّ إليّ، ولا إلى روحي بصلة. 

أعترف بأنّ التعامل العنصري المتواصل من جهة المؤسسة الإسرائيلية، بفروعها كافّة، معي ومع أبناء شعبي، دفعني دفعاً إلى البحث عن هويّتي الفلسطينية. وكما ذكرت سابقاً، فقد بدأت بوادر هويّتي تعود إليّ مع أحداث يوم الأرض، لكن بقيت مقتنعة بأنّني أعيش في بلد ديموقراطي، ومهم جداً أن أُسمِعَ صوتي وأطالب بحقوقي كفلسطينية مواطنة في البلاد.
لكن كانت المرّة الأولى، التي بدأتُ أفهم فيها أن لا جدوى من أيّ تعامل ومن أية محاولات إقناع الجانب الإسرائيلي، عندما كنت حاملاً بابني البكر، أمير، الذي وُلِدَ في عام 1984.

يومها ذهبت للقيام بفحص روتيني للحمل في المستشفى، حيث كنت أعمل مهندسة تطبيقية لصيانة الأجهزة الطبية. نسيت الطبيبة لوهلة أنّني فلسطينية، وقالت لي وهي فرحانة جداً حين اكتشفت جنس الجنين: "ها هو جندي جديد لدولتنا"!

صُعِقتُ وصرختُ عليها بغضب: "يؤسفني أن أخيّب ظنّك، ابني فلسطينيٌّ ولن يكون أبداً جندياً في دولتكم". فما كان من الطبيبة إلا أن صرخت بهيسترية: "أخرجي من هنا. أنتم العرب ناكرو الجميل".

بعد ذلك تركتُ العمل في المستشفى وتفرّغت لتربية أمير، ثم ابنتي نيسان. وعدت إلى الجامعة لأتعلّم، حتّى نلتُ اللقب الأول في مجال التربية والأدب المقارن، وهدفي أن أتخصّص في أدب الأطفال. ثم أكملتُ تعليمي إلى أن حصلت على شهادة الماجستير. وكانت أطروحتي حول "النكبة في أدب الأطفال الفلسطيني". ومن خلال هذا البحث، تعمّقت أكثر في السعي إلى بلورة هويّتنا الفلسطينية الحديثة. تلك التي تتميّز عن غيرها من الهويّات بأنّها تبلورت، جزئياً، من خلال نصوص أدبية وأخرى شعبية، في ظلّ غياب أيّ استقلال ذاتي، في أيّ من أماكن تواجد الفلسطينيين في فلسطين والشتات.

بداية في عام 1997، في أثناء أحد المؤتمرات حول فلسفة التربية في جامعة حيفا، حيث كنت أعمل كمعيدة في قسم التربية، عرضتُ في محاضرتي الخطوط العريضة لأطروحتي، ومنها: طمس الهوية الفلسطينية في مناهج التعليم، ومحاولة استبدالها بهويّة مشوّهة هي هوية "العربي الإسرائيلي". وقد أثار ما قلته الكثير من ردّات الفعل العنصرية من قبل الموجودين، حتّى أكثرهم يسارية.

كان صحافي جريدة "هآرتس" الإسرائيلية حاضراً المؤتمرَ، وكتب تقريراً موسعاً عن أطروحتي تحت عنوان: "الطفلة التي ذهبت لتبحث عن قماش لعلم فلسطين". وأثار التقرير ضجّة كبيرة في قسم التربية، مما أقنعني نهائياً أن لا مجال للعمل مع أيةّ مؤسسة أو فرد إسرائيلي، أو حتّى محاولة التأثير في الوسط الأكاديمي، وهذا أضعف الايمان.

في نهاية عام 1997، وبعد توقيع اتفاق أوسلو وبداية العمل لتأسيس مشروع وطني متكامل، دعتني وزارة الثقافة في رام الله إلى المشاركة في كتابة الخطة الوطنية لأدب الأطفال الفلسطيني. ورغم الانتقادات الكثيرة حول عمل السلطة الوطنية، كانت هناك نية حقيقية لتأسيس مشروعنا الوطني، رغم  كثرة المعوقات، بما فيها ممارسات الاحتلال ضدّنا، التي بلغت أوجها أيام الانتفاضة الثانية واجتياحات عام 2002. فحينها احتلّ الإسرائيليون وزارة الثقافة ونكّلوا (لا توجد  كلمة أخرى تصف وحشيتهم) بكلّ ما وقع تحت أيديهم من كتب ورسومات وأفلام ووثائق وملصقات أفلام وأحداث ثقافية... لأنّه كان واضحاً أنّ مشروعنا الثقافي من أهم وسائل نضالنا.

من خلال عملي في كتابة الخطة، ولاحقاً تنفيذها في جميع أنحاء الوطن، بما فيه غزّة (حتّى عام 2000) شعرتُ بأنّني أشارك، بكلّ تواضع، وبشكل فعّال، في تأسيس مرحلة جديدة في حياة شعبنا من خلال ورشات تدريبية للمعلمين والمشرفين وأمناء المكتبات في أنحاء الوطن، حول أدب الاطفال والحكايات الشعبية.

ومن خلال عملي أيضاً قابلتُ أشخاصاً مهنيين أقنعوني بأنّني حكواتية، فتركت عملي الأكاديمي وأبحاثي، لأبدأ رحلتي كأوّل حكواتية فلسطينية متفرّغة لهذا الفنّ، وصرت "الحكواتية"*.

وجدتني أجمع حكاية من أطفال الخان الأحمر، قرب أريحا، لأحكيها لأطفال دير حنّا في الجليل، وأسمع حكاية من حيفا لأرويها لأطفال مخيم جنين... فبدأت أجمع وطني المقطّع والموصّل بجدار الفصل العنصري والحواجز، من خلال حكاياتي، إضافة إلى تدريب الكوادر الأولى من شباب الضفّة وغزّة، عبر السكايب، كذلك أبناء مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، على فنّ سرد الحكايات، كوسيلة فنية مهمّة للمحافظة على هويّتنا الفلسطينية. 

المساهمون