السيدة فيروز... الحركة التصحيحية وفتنتها

25 نوفمبر 2018
في حفل منطقة الأرز عام 1967 (أرشيف محمود الزيباوي)
+ الخط -
يكاد لا يمر وقت في دمشق، أو حلب، أو اللاذقية، إلا ويُسمع صوت فيروز يُبَث عبر أثير الإذاعة، أو من على شاشة التلفزيون الرسمي، إلى الخاص، أو الموازي، بتعبير أدق. هذا هو الحال في سورية منذ أول ظهور للسيدة ضمن مهرجان معرض دمشق الدولي في دورة عام 1959، حتى اليوم. صارت أغانيها خبزاً سمعياً للآذان في كل مكان. وعلى مسرح الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، نشأ نحو ثلاثة أجيال.

من نافل القول، إن فيروز (1935)، التي مرّت قبل أيام 83 سنة على ميلادها، أيقونة استثنائية في تاريخ الفن العربي الحديث. وما بات يُعرف، عن جدارة، بـ "المؤسسة الرحبانية"، التي حملت صوت السيدة من بيروت إلى عواصم العرب والعالم، هي أول مدرسة فنية إنتاجية متكاملة في العالم العربي، مستقلة فنيّاً ومادّياً، استحضرت في الشرق مشروع مؤلف الأوبرا الألماني ريتشارد فاغنر، إبان القرن التاسع عشر، لإرساء "الفن المتكامل"، الذي يبدأ من النص الأدبي، مروراً ببناء المسرح والديكور وتصميم الملابس، وصولاً إلى التلحين والأداء.

بيد أن افتتان السوريين الخاص بفيروز والرحابنة هو بدوره ظاهرة استثنائية، من جهة المحبة الشعبية. لكن أيضاً، من جهة التبنّي الرسمي. افتتان بلغ حد تصريح مزعوم، لأحد الوزراء السوريين في ما مضى، عن وجوب إلحاق أغاني فيروز بالمقررات الدراسية في البلد.

ترى، ما الذي جعل صوت فيروز محببّاً لدى دوائر الإعلام السورية؟ خصوصاً منذ استلام حزب البعث السلطة. وكيف رسمت فيروز، من حيث لا تدري بالضرورة، البيئة السمعية للحياة منذ السبعينيات؟ بيئة صار من الصعب التنفس خارجها، وبات من غير المقبول، حتى في المستوى الشعبي، ناهيك عن الرسمي، أن يجاهر أحد "المواطنين" بعدم تفضيله فيروز، التي أخذت تحتل الهواء في معظم المقاهي والمطاعم، وحتى في وسائل النقل، خصوصاً في ساعات الصباح والظهيرة. هكذا، إلى أن بات نقاء صوتها ممزوجاً إما برائحة القهوة، أو بدخان الأراجيل والعوادم.

كان الثامن من مارس/آذار لعام 1963 آخر حلقة من مسلسل الانقلابات والفوضى الذي رسم المشهد السياسي لسورية ما بعد الاستقلال. تولى حزب البعث من خلاله السلطة. أعقبه انقلاب ارتدادي في فبراير/شباط 1966 للجنة العسكرية، ثم انفراد الراحل حافظ الأسد بالحكم داخل البيت البعثي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970، والتي سميت رسمياً بالحركة التصحيحية.

بعد تجميد الجبهة مع إسرائيل عقب حرب 1973، وقمع تمرّد الإخوان المسلمين في الداخل بداية الثمانينيات، دخلت سورية مرحلة من الحكم الشمولي المديد، ميّزها مظهران أساسيان؛ استتباب الأمن، وتريّف المدن. كلا المظهرين استدعيا حوامل أيديولوجية ناعمة، تمسك بالفضاء العام وتعبّر عن العهد الجديد. كان صوت فيروز والأغنية الرحبانية أحدها، وأفضلها من ناحية القيمة الفنية.

أتت خامة صوت فيروز خرقاً للسائد في الغناء العربي، من جوانب عدّة. ففي مقابل صوت محزوم ومنعقد، حاد ونافذ ميّز كلاً من أم كلثوم وأسمهان، مستجيباً لزمن ما قبل المايكروفون ولأبّهة البلاط الخديّوي في مصر؛ فإن لصوت فيروز في المقابل، ملمساً حريرياً يوحي بالرقة والهشاشة. مخرجه هوائي طلي أشبه بالفالسيت Falsette؛ حيث تستريح الحبال الصوتية أثناء الغناء. أثره مسكّن. يخلق للأغنية فضاءً انطباعياً impressionistic في مقابل تعبيرية expressionismميّزت الطرب الشرقي التقليدي.

هذه الانطباعية وظّفها الرحابنة، خصوصاً في مرحلة تبلور الأسلوب الفيروزي، واستقلاله التام عن الكلثومية في سبعينيات القرن الماضي، في أغنية وادعة تُريح النفس من دون أن تحرّضها. تُطرب الأذن من دون أن يُسمع لها وقْع.

الجانب الآخر هو الدوزان المنخفض flat tune، القريب من السلم الغربي المعدّل والذي جعل غناء فيروز مستقراً، حتى في أشد الأغاني درامية. قد يعود ذلك إلى نشأتها في بيئة إنشاد كنسي، حيث يُدرّب المغني على الاندماج في مجموعة المرتّلين. تتقارب الأبعاد بين النغمات، نزوعاً إلى الانسجام والائتلاف في شحنة صوتية موجبة. مقابل محورية المطرب الكلثومي، المتأثر بنموذج الشيخ القارئ القائم على التفرّد. حيث تتباعد النغمات عن بعضها وتكتسب شحنة سالبة، تزيد من توتّرها وقدرتها على الإثارة.

استطاع الرّحبانيان، عاصي ومنصور، بحنكة، توظيف الخصائص تلك، في إنتاج فنّي حمى صوت فيروز وأبرزه في آن، عبر اتبّاع أسلوب توزيع (أي كتابة الموسيقى لتشكيلٍ من مجموع آلات) أشبه بالهندسة الفراغية. شكّل صوت فيروز فيه بعداً أول ومركزياً.

البعد الثاني هو الأرضية Bass، الذي أُسند إلى ثنائي الكونتراباص والدف. أما البعد الثالث، فعُمّرَ على منسوب مرتفع بشكل غير مألوف في الموسيقى الشرقية. يتألف من آلات الكمان، أضيف إليها في تجديد فريد، آلات نفخية ذات مجال صوتي مرتفع، كالفلوت والأبوا والكلارينيت.

بهذا، لم تعد المرافقة الآلية، أي التخت، تتمترس خلف المطرب، وإنما أصبحت بطانة تُغلّف الغناء بطبقة مخملية. هذا النسيج ظل، مع ذلك، خامداً، بالرغم من التنّوع الآلي غير المعهود، إلا في بعض أغاني عبد الوهاب، في الآلات الموسيقية وأدوارها.

أضف إلى ذلك توظيف التكنولوجيا المتاحة، من جهة تحقيق التوازن الصوتي صناعياً؛ عن طريق تكبير صوت المغنّي وتصغير مجموع الآلات المصاحبة، وصولاً إلى ناتج سمعي مُنسجم كلّياً ومؤتلف بين عناصره، بما فيها الصوت البشري، لتدخل تلك الأغاني إلى الوعي الجمعي، من باب الألفة والسكينة.

غير أن الموسيقى لم تكن وحدها مجال الاستثمار الأيديولوجي من قبل السلطة. فمواضيع الأغاني كانت، هي أيضاً، سِمة مرحلة جديدة. بدأت بأثر عكسي لما كان يُعرف بالإصلاح الزراعي. فاشتراكيةٌ أُريد لها أن تطوُّر ريفاً مهملاً منذ عهد العثمانيين، وأن تُحرّر الفلاحين من سطوة إقطاع قروسطي متجبّر ومتخلف، لتنهض بالاقتصاد، أتت بفضل سوء التخطيط والإدارة والفساد، بنتائج مغايرة. فبدلاً من أن يُحضّر الريف ويُمكّن، اشتدت هجرة الفلاحين إلى المدن، سعياً وراء الوظائف المدنية والأمنية والعسكرية. فتريّف المجتمع، ونشأت في المدن ذائقة جديدة، احتضنت أغاني فيروز مغنًى ومعنى.

في جغرافيا لبنان، التصاقٌ للبحر بالجبل، الميناء بالحقل، والطائفة بالحزب السياسي. جعل هذا من الريف أصلاً، ملتحماً بالمدينة. وعليه فإن الثقافة اللبنانية لم تعرف حدوداً نائية بين القروي والحضري. بالمقابل وفي بلدان أكبر كمصر وسورية، كل من أم كلثوم وأسمهان كانتا من بنات الريف، إلا أن انتقالهن إلى المدن على خطى المسيرة الفنّية، حتّم عليهنّ التقولب التام ضمن طرب البلاط في القاهرة.

في عهد الرحابنة، عبَر الريف، بمواضيعه كالضيعة والجبل والوادي، وآلاته كالمجوز والبزق، ورقصاته كالدبكة، إلى مجال الثقافة السائدة. وإلى آذان طبقة وسطى، تتحول اجتماعياً وديموغرافياً. الشيء الذي فتح الباب من بعد، أمام أسماء غنائية بهوية ريفية سورية، كفهد بلّان ، ذياب المشهور، وسميرة توفيق، وفؤاد غازي.

في غمار التحولات الكبرى، منها ما سيُشعِل حرباً بشعة ستفتك بالوطن اللبناني لعقدين من الزمن، تبنّت المؤسسة الرحبانية بحكمة تسويقية، إعلامياً على الأقل، موقفاً سياسياً جامعاً أقرب إلى "الحياد الإيجابي"، جعل منها عابرةً للتجاذبات السياسية يميناً ويساراً، في لبنان وخارجه، مولية الأفضلية لانتشار المسرح الرحباني والأغنية الفيروزية. ما خلا تبنّيها جملة المبادئ العامة، كالإجماع حول العروبة وعدالة القضية الفلسطينية.

أتى ذلك النظام في دمشق، فطرِب لصوت فيروز كما طرِب له كثير من السوريين. رأى أن لصوتها أثراً يكيّف المزاج الشعبي، يمثّل المجتمع الناشئ، ويسهم في تعزيز الاستقرار (السمعي) على الجبهة الداخلية.

المساهمون