"بيت العود" يتّسع لنغمة واحدة فقط

11 اغسطس 2019
طاولت تأثيرات "بيت العود" صناعة الآلة (محمد محجوب/فرانس برس)
+ الخط -
في يوم خريفي معتدل من أيام شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 1998، يُفاجأ المهتمون بالفن والموسيقى في مصر، بإعلان افتتاح بيت العود العربي، ليكون أول معهد متخصص في تعليم العزف على آلة واحدة. المقرّ في دار الأوبرا المصرية في قلب القاهرة، والرئاسة والإدارة للعازف العراقي الشهير، نصير شمة.
منذ تلك اللحظة، لم ينقطع الجدل حول بيت العود، وأساليب الدراسة والتعليم فيه؛ فنصير شمة جاء إلى القاهرة وهو يحمل مشروعاً لترسيخ الطريقة التي انتشرت في العراق على يد العازفين الشهيرين؛ الأخوين منير وجميل بشير، بعد أن وضع أساسها أستاذهم الموسيقي والعازف التركي الشريف محيي الدين حيدر.

مع الوقت اتضحت تماماً خطة نصير الدراسية، ولا سيما بعد أن صدر قرار وزاري في ديسمبر/ كانون الأول عام 2002 بتخصيص "بيت الهراوي" الذي يرجع إنشاؤه إلى عام 1731، ويعدّ من أجمل البيوت الأثرية في القاهرة، مقراً لبيت العود العربي، ما يعني أن وزارة الثقافة المصرية رأت في المشروع ما يستحق الرعاية والتبني، بعد مرور نحو أربع سنوات على انطلاقه، وتخريج عدد من العازفين المهرة، الذين أبهروا جمهور الحفلات على مسارح مختلفة.

رأى كثير من الموسيقيين المصريين أن المشروع بعيد تماماً عن المدرسة المصرية الكلاسيكية في العزف على العود، وأنه يهمل تعليم الأسلوب الشرقي الموروث، وأن مناهجه تركز على مهارات السرعة والإبهار، من خلال حفظ عدد من المقطوعات الحرة، التي جاءت في معظمها من المدرسة العراقية الحديثة، فهو امتداد لمدرسة بغداد التي أنشأها الشريف محيي الدين حيدر عام 1937، واستمرت 10 سنوات فقط.

وبينما يسمع الدارس كثيراً أسماء الشريف محيي الدين، وجميل ومنير بشير، ويتمرن على عدد كبير من المقطوعات التي ألفها نصير شمة نفسه، فإنه لا يكاد يدرس شيئاً عن محمد القصبجي أو رياض السنباطي أو فريد الأطرش، أو جورج ميشيل، لا من مؤلفاتهم ولا من أساليبهم، ولا يعرف شيئاً عن تاريخ تطور الآلة وأساليب العزف في مصر منذ عصر الأسطوانات والفونوغراف، إلى عصر السنباطي وعبد الوهاب ومجايليهم.

قد تتخذ محاولة التقييم الموضوعي لبيت العود العربي، طريقاً مختلفاً إذا أخذنا النتائج النهائية في الاعتبار، ولا سيما بعد مرور أكثر من عقدين على انطلاق التجربة. فأكثر المتخرجين البارزين من البيت سلكوا طريقاً مغايراً. استفادوا مما قدمه لهم نصير شمة، وهضموه بسرعة، لكنّهم أيضاً وضعوا لمستهم الخاصّة.

يمكننا هنا أن نشير إلى ثلاثة نماذج: الأول طارق عبد الله، العازف والباحث المتعمق في الآلة وتاريخها والمحيط بمراحل تطورها، وواضع عدد من أهم الدراسات عن أعلام العازفين المصريين، نذكر منهم "العواد الفذ أمين بك المهدي وعصره" و"سلطان العود محمد القصبجي"، كما اهتم طارق بتتبع تاريخ صناعة الآلة وسيرة أعلام الصناع المصريين في القرنين الماضيين..

والثاني: حازم شاهين، العازف الذي اختار طريق التلحين، وتكوين الفرق الغنائية، واهتم بتقديم تراث سيد درويش، والشيخ إمام عيسى، واتخذ مع طلابه أساليب تعليمية مغايرة.
أما النموذج الثالث فهو مصطفى سعيد، الذي ألقى بنفسه في خضمّ الطرب الشرقي النهضوي، ودراسة أعلام الغناء والتلحين والعزف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين، وأعاد بالقوالب الغنائية الكلاسيكية، سواء منها الغنائي أو الآلي.


لمصر تجربة رائدة في التعليم الموسيقي المؤسسي، تمثلت في إنشاء معهد الموسيقى الشرقي عام 1913، الذي تحول إلى أهم صرح تعليمي في الشرق الأوسط، وانتظمت الدراسة فيه عام 1926. ووفقاً للباحث طارق عبد الله، فإن الدراسة في هذا الصرح الذي عرف باسم معهد فؤاد الأول، اتسمت بـ "التنوع وتعدد الموادّ الدراسية والتطبيقية، ومبدأ التخصص، إلى جانب دراسة الموشحات والأدوار، وكثرة الموادّ النظرية ومنها: قواعد موسيقى شرقية، وقواعد غربية، وهارموني، وتربية موسيقية، ومادة تاريخ الموسيقى".

لكننا في مصر تراجعنا، وأهملنا وفرّطنا، وأخلينا الساحة لتتمدد مشاريع التعليم السريع، وإبهار الجمهور بسرعة عزف مقطوعة "العصفور الطائر"؛ لذلك وجد مشروع نصير شمة في مصر بيئة مواتية، فجاء وهو يحمل كل السلبيات والمآخذ التي وقع فيها مشروع بغداد بزعامة الشريف محيي الدين، التي أرجعها الباحث والمؤرخ الموسيقي العراقي حسقيل قوجمان إلى التركيز على الناحية التكنيكية التطبيقية، وإهمال الدراسة المعمقة للنظريات والقواعد، وهو ما أنتج في الأخير عازفين يعانون من نقص فني متعدد الأوجه، يتمثل في رأي قوجمان في نقاط خمس هي: عدم إجادة فن التقسيم، الموقع منه والمرسل، وافتقاد القدرة على المصاحبة الغنائية، والعزف بأسلوب تركي لا يستحسنه المستمع العراقي، وانعدام القدرة على تمييز المقامات بالسمع، والخروج عن الإيقاع.

وحين تقام مدرسة لتدريس فنّ العود المصري العريق، فمن المحتم أن يمكث الطلاب فيها سنوات، يسمعون كل يوم بأمين بك المهدي، وداود حسني، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، قبل أن يسمعوا للمرة الأولى باسم الشريف محيي الدين.
تعامل نصير شمة مع أعلام العود المصري، باعتبارهم ملحني أغان، لا تعدو آلة العود في فنهم أن تكون مجرد وسيلة لإظهار اللحن، وتحفيظه للمطرب أو المطربة. هم في نظره ملحنون يحرصون على الطرب والسلطنة أكثر من حرصهم على التعبير والتأمل. لم يؤلف أحدهم مقطوعة خاصة للعود، ولم يقدم بعوده حفلاً كاملاً لجمهور جاء فقط للاستماع إلى عزف خالص.

لكن كان من الصعب جداً على نصير شمة، وهو يدرّس العود في قلب القاهرة، وفي مقر أثري خلف الجامع الأزهر، أن يتجاهل العازفين المصريين تجاهلاً تاماً، ولا سيما مع تصاعد النقد لطرائق التدريس التي اعتمدها، فاضطر لاختيار بعض القطع الموسيقية لرياض السنباطي وفريد الأطرش، ليبدأ طلاب "بيت العود" في تعلم عزف "إفرح يا قلبي" و"توتة"، من باب ذر الرماد في العيون. وكلما سمع نصير انتقاداً لأساليب الدراسة التي فرضها، أو ميله الشديد إلى توجه فني معين، أو إهماله للمدرسة المصرية الكلاسيكية، أجاب من فوره: "غير صحيح.. نعلّم الطلاب مقطوعات للسنباطي وفريد الأطرش، وندرسهم سماعي الكرد لعبده داغر".




دلالات
المساهمون