سرينغار.. مدينة المتصوّفين وشهر عسل المتزوجين

07 يناير 2015
سرينغار مدينة تفيض بالخيرات (Getty)
+ الخط -
مع أنّها العاصمة الصيفية لولاية كشمير، وجامو عاصمتها في الشتاء، يبقى اختبار الصقيع في سرينغار متعة معرفية وذوقيّة بامتياز، هذا بشرط أنْ تحسن استخدام "البطّانية الكهربائية" في ليل غرفة بلا تدفئة مركزية، وأن تلازمك "الكانغري" في تنقّلاتك، وهي دفّاية يدويّة تُبقي الجمر مستعراً تحت الرماد، ويسهل أن تأخذها معك أينما ذهبت.

كيف يُنسى منظر سائق عجلة "الطُقطق"، والمقود بيده اليمنى و"الكانغري" في يده اليسرى، يتوقّف في منتصف الطريق ليدعونا إلى وضع أيدينا فوق جمر "الكانغري" للتدفئة، قبل أن يعود ويتابع طريقه.

قلب كشمير المشطور
سرينغار هي القلب المعماريّ والروحيّ لكشمير. وهي ليست مجرّد مدينة على ضفة نهر، وهي أكثر من مدينة عائمة، لأنّها تنثر منازلها وأزقّتها بين ضفاف نهر جلهم وبحيرة دال ليك، ناهيك عن القوارب- المنازل، التي تنتقل منها وإليها، إمّا بجسور خشبيّة متسلسلة وإمّا بواسطة "الشيكارة".

سرينغار، ببحيرتها وقواربها العائمة، كما بحدائقها المغوليّة وآثارها الدينية الإسلامية والهندوسية، ومناطق الاصطياف الكشميرية، مثل "غولمارك" و"باهلغام" وغيرهما، تشكّل في الوجدان الهندي "شهر العسل" المثالي للمتزوّجين، والخلفية الرومانسية لكثير من الأفلام الهندية، وقصّة صراع ديني وقوميّ لم ينتهِ.

فكشمير مقسّمة بين ما تسيطر عليه الهند وما تسيطر عليه باكستان. وفي داخل كشمير الهندية نفسها معادلة إطباق عسكري على مجمل الحياة العامّة، وفي الوقت نفسه نزوح قسري لهندوس مدينة سرينغار إلى خارجها، لا سيّما إلى جامو العاصمة الشتويّة لولاية جامو كشمير. هناك أيضاً قسم من كشمير التاريخية تسيطر عليه الصين الشعبية. وهناك عموماً جهل خارجي بماهيّة الحركات الاحتجاجيّة الكشميرية، وخصوصاً تلك الفكرة التي تجد تعبيرها الصادق عند أكثر من شخص صادفتهم "كشمير للكشميريين، لا هي هندية ولا هي باكستانية".


يتجمّد كل شيء في الشتاء (وسيم اندربي/Getty)

حياة فوق الجليد
"صبح بالخير شيخ". بتحية النهار الكشميرية هذه يبدأ يومك.
شوارع المدينة وأزقّتها وجسورها تحثّك على المسير لساعات بلا كلل وسط انهمار الثلوج.
وعندما تخبر الناس عن حبّك لمدينتهم شتاء، تراهم ينصحونك بالمجيء إليها في الصيف، فحينها تزهر تلال غولمارك، وتمتلئ بحيرة دال بزهور اللوتس.

ولكن في الصيف، هل كنت ستتعرّف على "البطّانية الكهربائية"، والدفّاية اليدوية، ومعطف "الفيرين" الذي يوحّد الزيّ الشتويّ حولك، فتسرع إلى حارة الخيّاطين في "دال شوق"، مشترياً القماش المطلوب كي يجهّز لك واحداً مثل بقيّة الخلق؟ ثقافة الشتاء في هذه المدينة، التي تعجز عن وضعها في خانة فرحة أو في خانة حزينة، تبقى مساحة للتجوال ثمينة.
البحيرة "دال" متجمّدة في ساعات الصباح الأولى.

كثبان الدخان تتطاير من أعمدة مدافئ البيوت الخشبية العائمة. امرأة متقدّمة في السنّ تكسر طبقة الجليد بمجدافها لشقّ الطريق لـ"شيكارتها". بضع شيكارات أخرى تتشكّل في سوق خضار عائم. عائم؟ بل متجمّد.

لا جوع كما في صباح سرينغار الشتوي. الجسور الخشبية تأخذك من حارة عائمة إلى أخرى، تبحث عن رائحة، عن فرن، عن رغيف حاف، قبل أن تصحو المدينة ومحلاتها، وقبل أن تباشر غزوك للعربات المحمّلة تارة بالفاكهة المجفّفة، وتارة بكستناء الماء، هذا النوع من الكستناء الذي ينبت في البحيرة والذي أنقذ ذات مرّة أهل المدينة من مجاعة محقّقة.
في شبه القارّة الهندية، كستناء الماء هو الطعام الأمثل في فترات الصيام. وهو في كشمير يؤكل نيئاً أو مشوياً أو مقلياً، ويمكن صناعة حلوى منه.

في الرحلة الجوّية من مطار نيودلهي إلى مطار سرينغار كنت أعبّئ نفسي احتياطياً لصراع قادم مع الشعور بالغربة الشديدة، وكيفية الاستفادة من الكآبة الصقيعية دون الاكتئاب، ورحتُ أستعيد ما سمعتُه من زوّار آخرين عن تديّن الكشميريين ومحافظتهم، وعن الوضع الأمني في المدينة.

موعد الوصول كان موعد صولة من صولات عاصفة ثلجية عاتية. كلّ شيء من شبّاك الطائرة كان جبالاً شاهقة وغابات وثلوجاً عامرة، ثلوجاً فوق ثلوج...

بخلاف ولايات الهند الأخرى، حيث تخرج من أيّ مطار محليّ من دون أن يسألك سائل من أنت، عليك هنا أن تعبّئ أوراق تسجيل مفصّلة، لتكتشف بعد ذلك أنّ عليك أن تقوم بالشيء نفسه حالما تصل إلى الفندق، وهذه المرّة "أونلاين".

انتشار الجيش الهندي أكثر كثافة مما كنتُ أتوقّعه، رغم أنّي كنتُ أنتظره كثيفاً. في كلّ شارع وحارة يوجد بيت حوّل إلى ثكنة. بيوت ومعابد الهندوس الذين نزحوا من سرينغار إلى جامو كلّها في حراسة عسكرية مشدّدة.

في الشتاء، يبدو أهل المدينة المعتادون على البرد والثلج يلعبون فعلاً على أرضهم، قياساً بالذين يقضون عسكريتهم في سرينغار، القادمين من ولايات هندية لا عهد بها بهذه الدرجة من الصقيع.



غروب سرينغار (Getty)


تراتيل الليل
الليل. عواء الكلاب يتجمّد، ثم تسمع في الغابة المجاورة قهقهات الدببة.
الليل هو ليل الخانقاه، للتراتيل والمدائح. عندما سألتُ رؤوف عن التراتيل الصباحية الصادحة من الخانقاه المجاورة لفندقه، "سويس أوتيل"، قال إنّها على أوزان المانترا الهندوسيّة، احتاجها أوائل من نقل سرينغار إلى دين الإسلام، كي يستعيد أهلها الأوزان نفسها، إنما بمعان إسلامية.
شبكة الخانقاه الصوفية في طول المدينة وعرضها تتوّج على الضفّة اليسرى من البحيرة بالمقام الأكثر قدسيّة في هذه المنطقة من العالم، "حضرة بال"، آو بالنطق الكشميري هي "حزرتبال".

"الحضرة" مصطلح عربي انتقل إلى الأوردية ويفيد رفعة المقام، أما "بال" فهي المكان أو المطرح باللغة الكشميرية، فينظر إذاً إلى اسم الصرح "حضرة بال" كازدواجية أوردية- كشميرية، هي إلى حدّ كبير ازدواجية الهوية الكشميرية نفسها، بين انتماء لعموم إسلام شبه القارّة الهندية وبين خصوصيّة تبحث عن تفلّتها من الهند وكشمير في آن.

"حضرة بال" بكلّ ما للكلمة من معنى تحفة للناظرين، لأنّ فن العمارة هنا هو فن البناء بالأخشاب وحفر الأخشاب وترصيعها.

هذه المدينة ليس مشهوداً لها فقط بنوع السجاد التي تحوكه أو يتجمّع فيها من أقاليم كشمير الأخرى، إنما بهذا الولع بإبداع عالم كامل مصنوع من الخشب: فمن الجسور الأثرية الخشبية، إلى البيوت العائمة والقوارب، إلى الحضرة الصوفية والمسجد الكبير.

نقشبنديون وجشتيون. سنة وشيعة. مسلمون وهندوس. مستويات مختلفة للتعدّد في هذه المدينة. لكنّ كلّ يوم تقضيه فيها ستكتشف أشياء جديدة. مثلاً، عندما استبدّت العاصفة ولم نجد أمامنا سوى مطعم تيبتي يُؤوينا، اعتقدنا بأنّه من غير الأصيل أكل الطعام التيبتي في كشمير العامرة بمطبخها. اكتشفنا بعد ذلك أنّ التيبتيين في هذا المطعم، هم من أقلّية مسلمة مرحّلة من التيبت.
شيئاً فشيئاً، وكلّما تنبّهتَ إلى أنّ هذه المدينة يتحرّك مداها بين التيبت والهند والباكستان وإيران، أدركتَ أنّك في واحدة من "عواصم العالم".

المسيح مرّ من هنا!
في سرينغار شعورك بأنّك في "آخر العالم"، سرعان ما ينقلب نقيضه: أنت في مركز العالم.
الليل مجدّداً. إصرارٌ يقودنا إلى العودة مشياً على الأقدام في المدينة التي يعسكر في كلّ مكان منها الثلج والعسكر.

الثلج لا ينفكّ ينهمر. الأضواء تخفت. الهاتف الهنديّ لا يعمل. الطريق من المركز التجاري إلى المدينة "لال شوق" أو بحيرة "دال" تبدو في الليل وكأنّها لا تنتهي.

"أنت في كشمير"، تحادث نفسك. تتذكّر أنّ معتقدات كثيرة تعتبر المسيح أتى إلى كشمير.
الفرقة "الأحمدية" مثلا تعتبر نفسها مكلّفة بالسهر على حماية قبره.
هل حقّاً قدم المسيح إلى هنا وعاش عقودا؟ هل خطواته وراءنا في الليل.

"سرينغار مدينة مقدّسة"، يصيح أحدنا. "إذا رأينا سائق طقطق في عزّ الليل، فمن الأفضل الصعود معه"، يصيح آخر. يقرسنا البرد. نستعين بعدد الحواجز العسكرية على مسافة الطريق. نستعين بعدد من أقداح القهوة الكشميرية، وهي مشروب مركّب من الشاي الأخضر والتوابل والزعفران، على البرد.
دلالات
المساهمون