تونس: الصيد يهادن النقابات العمالية

28 فبراير 2015
يضمّ اتحاد الشغل 800 ألف عضو (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
يدرك الائتلاف الحكومي في تونس، أن نجاحه السياسي مرتبط أساساً بقدرته على الوفاء بوعوده، التي حددها للمائة يوم الأولى من عهده. وعد الائتلاف في تحقيق بعض المطالب المتراكمة منذ عشرات السنين لفئات شعبية فقيرة، تناستها الحكومات والأنظمة التونسية منذ الاستقلال، وأتاحت لها الثورة فرصة الخروج عن صمتها الطويل، والتعبير عن حقها في الحياة. رفعت تلك الفئات شعار الثورة (2010) الذي لم يتغير منذ انطلاقتها من سيدي بوزيد وقفصة والقصرين حتى اليوم: "خبز، حرية، كرامة وطنية".

اصطدمت حكومات ما بعد الثورة بخزينة فارغة، بسبب توقف آلة الإنتاج، ما عرقل فرص تنفيذها للمطالب الشعبية، وتحقيق آمال المناطق المهمّشة، التي رأت في ضغطها المتواصل على الحكومة، فرصة أخيرة لها للحاق بالمنظومة الإنمائية للدولة. كما اشتبكت الحكومات بالمنظمات الاجتماعية والنقابية، ووصل الاشتباك إلى حدّ المواجهة المباشرة، في ظلّ اتهامات متبادلة بالتعطيل لأسباب سياسية وإيديولوجية.

انطلاقاً من ذلك، تدرك حكومة الحبيب الصيد جيداً، أن نجاحها يتوقف في جزء كبير منه، على تطبيق هدنة اجتماعية، تُعيد آلة الإنتاج المعطّلة إلى العمل، وتُعيد إلى خزينة الدولة شيئاً من توازنها المفقود، حتى تتمكن من تحقيق بعض وعودها الاجتماعية. وأمام الحكومة تحدٍّ كبير، يتجلّى في ضرورة منح انطباع نفسي، على أنها قادرة على إحداث تغيير ما في حياة التونسيين الصعبة، فاستمرار الوضع على ما هو عليه وتواصل الإضرابات والحركات الاحتجاجية، سيقضي عليها سياسياً.

واستبق الرئيس الباجي قائد السبسي، الحراك بدعوته لايجاد "حلول بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، في شأن الإضرابات التي يتم تنفيذها، مثل إضراب أساتذة التعليم الثانوي وأعوان البريد". واعتبر السبسي أن "الظروف صعبة، والاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، مسؤولان مع الحكومة في هذه الحالة".

وكان الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وصف استمرار الإضرابات والاعتصامات في تونس بـ"الانتحار الجماعي"، مشيراً في حينه، إلى أنه "يربأ بالتونسيين أن يكونوا ممن يخربون بلدهم بأيديهم، لأن الاضطرابات والاحتجاجات في مثل هذه المرحلة الصعبة، تعد بمثابة انتحار جماعي". ودعا إلى "هدنة سياسية واجتماعية لمدة ستة أشهر".

اقرأ أيضاً: الدبلوماسية التونسية والبحث عن التوازن الصعب
اقرأ أيضاً: الخارجية التونسية وليبيا.. ارتباك الأداء

هذا الوعي بأهمية تحييد "اتحاد الشغل"، النقابة الأبرز في البلاد، وتضم أكثر من 800 ألف منتسب، دفع بحكومة الصيد إلى الاستجابة السريعة لدعوتها الدخول في مفاوضات اجتماعية جديدة، من أجل زيادة أجور العاملين في القطاع العام، عكس ما جرى في الصراع بين النقابة وحكومة مهدي جمعة، التي رفضت مطلب "اتحاد الشغل"، ودخلت في مواجهة مباشرة معه.

للصيد رؤية أخرى، تعتبر "أنّ التوافق وتوخّي منهج الحوار مع الاتحاد العامّ التونسي للشغل والمنظمات الوطنيّة، هو السبيل الذي سيمكّن من إنجاز الإصلاحات، الكفيلة بتجاوز الصعوبات والعجز المتراكم للمؤسّسات العموميّة، الذي بلغ حوالي 1.6 مليار دولار".

كما تنصّ رؤية الصيد على "إرساء مناخ اجتماعي سليم، يجعل الحكومة تنكبّ على مختلف القضايا والإشكاليّات الأساسيّة المطروحة، ويسمح لها بالتركيز على مسائل حسّاسة، تتعلّق بالأمن وإيجاد الحلول الاقتصاديّة النّاجعة التي تمرّ بها البلاد". ويكشف أن "الحوار مع الاتحاد يُعدّ من أبرز أولوياته العشر في المرحلة المقبلة". ويدرك الصيد أنه لا بدّ من إنجاز شيء يُذكر، وإيقاف نزيف الخزينة، فقد خسرت تونس وفقاً للخبير حسن الزرقوني، 361 ألف يوم عمل في العام 2014 بسبب الإضرابات والاحتجاجات.

وأفاد الأمين العام المساعد في "الاتحاد العام التونسي للشغل"، بوعلي المباركي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الأمين العام للمنظمة حسين العباسي، لامس خلال لقاءاته الثنائية بالصيد، التي سبقت التوقيع على البلاغ الإطاري المشترك لفتح المفاوضات الاجتماعية للزيادة في الأجور، عزم رئيس الحكومة على التعاون وتطبيق كل التزامات الحكومات السابقة، في إطار استمرارية الدولة". وأضاف المباركي أن "التوقيع هو مفتاح لكلّ الملفات المؤجلة والأزمات المتواصلة، وحلّ للحد من حالة الاحتقان التي تعيشها كل القطاعات العمومية، وسبيل من السبل للحد من تدهور القدرة الشرائية للمواطن".

وفي هذه الحمأة تعرف الساحة السياسية التونسية، أن حركة الاحتجاج لا ترتبط فقط بـ"اتحاد الشغل" كمنظومة نقابية اجتماعية، وإنما ترتبط أيضاً بجملة من العوامل المتحررة من القرار النقابي، ففضلاً عن الاحتجاجات الشعبية التلقائية، التي لا تنتظر موافقة المركزية النقابية، يتدخل الدافع السياسي بشكل كبير في إقرار الإضرابات.

ويُعدّ "اتحاد الشغل"، خليطاً غير متجانس من التيارات السياسية والفكرية المتناقضة، وإن كان الرافد اليساري والقومي هو المهيمن تاريخياً على مفاصله. لذلك سعت حكومة الصيد إلى محاولة استمالة "الجبهة الشعبية"، ولم تيأس من محاولة استمالة أطراف فيها وترضيتها، كما تتفادى وضع الجبهة في موضع الخصم النهائي.

وفي دلالة على الاحتفاظ بخيوط التواصل مع الجبهة، على الرغم من فشل ضمّها إلى الحكومة، أقدم الصيد على الدفع ببعض الوجوه اليسارية والنقابية في "نداء تونس"، إلى بعض المواقع الحكومية، لكن الأمر لم يفلح في تفادي إضرابات حساسة، على غرار إضرابات قطاعات الصحة والتعليم والنقل والبريد، التي تشلّ حركة البلاد مع كل قرار إضراب.

وبالإضافة إلى الدافع السياسي أو الأيديولوجي، يدخل على الخط عامل جديد حاسم، هو انتخاب المكتب التنفيذي الجديد لـ"اتحاد الشغل"، خلال المؤتمر المقبل الذي سينعقد في العام 2016. وتتبارى عديد القوى النقابية من أجل الفوز بمقعد قيادي، يمرّ حتماً عبر تحقيق بعض المطالب الاحتجاجية.

المساهمون