"إعدامات رابعة": النظام المصري يجدد عقيدة الدم مع معارضيه

30 يوليو 2018
العشرات من قيادات الإخوان باتوا معرضين للإعدام(خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

أصدرت محكمة جنايات القاهرة، أول من أمس، قراراً بإحالة أوراق 75 من قيادات ونشطاء اعتصام رابعة العدوية لمعارضة الانقلاب على الرئيس المعزول، محمد مرسي، في يوليو/تموز 2013، إلى المفتي، تمهيداً لإصدار حكم بإعدامهم، إلى جانب عقوبات متوقعة، تتدرج من السجن 3 سنوات إلى السجن المؤبد بحق نحو 650 آخرين، على رأسهم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، والصحافي محمود شوكان.
واعتبر هذا الأمر رسالة سياسية شديدة اللهجة من النظام المصري للدوائر التي تروّج للمصالحة والتقارب بين جماعة الإخوان المسلمين، أو تيارات منها، مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وطيّ صفحة الماضي، وكذلك لبعض السياسيين الذين يروّجون لصور متخيلة تستقي تفاؤلها من إقدام النظام على ممارسة ضغوط على أفراد الجماعة المحبوسين، للتوقيع على وثائق تعترف بشرعية السيسي مقابل التخلي عن النشاط السياسي.

وتزامن صدور القرار مع الذكرى الخامسة للخطوة العملية الأولى التي اتخذها السيسي لفض الاعتصام، وقمع مؤيدي مرسي بالقوة، وهي مطالبته بخروج تظاهرات لتفويضه للتعامل مع "الإرهاب المحتمل"، في 26 يوليو 2013. وسيصدر الحكم النهائي في القضية بعد الذكرى الخامسة لفض الاعتصام بأيام، وتحديداً في 8 سبتمبر/أيلول المقبل، أي أن سنوات خمساً بالتمام والكمال مرت على المجزرة التي راح ضحيتها، وفق أرقام حكومية رسمية، ما بين 600 و700 من المواطنين، من دون أي محاكمة أو مساءلة للمسؤولين عن المجزرة، بينما يرتفع العدد إلى أكثر من ألف، وفق بيانات منظمات حقوقية محلية ودولية. وبعد كل هذه المدة، يجد معتصمون آخرون أنفسهم على طريق المشانق، باتهامات قانونية هشة، كتنظيم اعتصامات من دون تصريح وتعطيل الطرق والمواصلات.

وصدور هذا القرار، في ظل تمسّك السيسي بالتصعيد والتنكيل للضغط على سجناء "الإخوان" للاعتراف به مقابل حصولهم على حقوقهم العادية، كالإفراج الشرطي بعد قضاء ثلثي المدة أو نصفها، أو الإفراج الصحي عن الحالات المتردية منهم، يعبر عن تمسّك السيسي بالرفض المطلق للتعامل مع التيار الإسلامي بصفة عامة و"الإخوان" بصفة خاصة، استمراراً لمسيرة إراقة الدماء في فض اعتصامي رابعة والنهضة، ثم تقديم المصابين والناجين، الذين غادروا الموقع بوعود الخروج الآمن، إلى محاكمات تفتقر لأبسط مقومات العدالة، ثم إعلان "الإخوان" جماعة إرهابية، ثم وضع السلطة التنفيذية، بمساعدة السلطة القضائية، يديها على أموال وعقارات الجماعة والقادرين من أعضائها وأنصارها. ويؤكد هذا التسلسل، وصولاً بقرار التمهيد الأخير لإعدام 75 شخصاً من المعتصمين، رغبة السيسي وقيادة الجيش من خلفه في القضاء على تيار الإسلام السياسي. فبدء التنكيل بالحد الأقصى من الإجراءات التصعيدية، ألا وهو إراقة الدماء، وإجبار الأطراف المحايدة على الصمت وغلق المنافذ السياسية والإعلامية أمام رافضي المذبحة، كانت مقدمة طبيعية لكل ما تلا ذلك من خطوات، بما في ذلك قطع كل سبيل للتواصل مع الجماعة، بمختلف تياراتها، لاستحالة التفاوض على تكريس أي وضع سياسي جديد.

عقدة تاريخية

والحاصل حالياً أن جميع قيادات الجماعة مدانون بأحكام غير قابلة للطعن، ما يعني أن أجيالاً كاملة من الجماعة أصبحت في خصومة نهائية مع النظام والقضاء، لا يمكن محوها في ظل استمرار نظام السيسي، وإذا بقيت الجماعة بهيكلها الحالي، بل إن العشرات من هؤلاء القيادات، وعلى رأسهم محمد البلتاجي وعصام العريان، باتوا معرضين، أكثر من أي وقت مضى، للإعدام على ذمة قضية أو أكثر من المتهمين فيها، وهو ما يسهم بالتأكيد في ترسيخ عقدة الدماء بين نظام السيسي و"الإخوان". ووفقاً لمصادر سياسية إسلامية، تحدثت لـ"العربي الجديد" في وقت سابق، فإن "جميع المفاوضات السرية بين أجنحة في السلطة وشخصيات نافذة في جماعة الإخوان، بين صيف 2013 وخريف 2014، لحث الجماعة على وقف التظاهرات الشعبية والسيطرة على أتباعها، مقابل تدشين وضع سياسي جديد للجماعة والإفراج عن قياداتها، كانت تتحطم على صخرة تمسّك الإخوان بمساءلة مرتكبي مذبحتي رابعة والنهضة، وتعويض أسر الشهداء والمصابين واعتراف الدولة بالخطأ الجسيم".



ويعبّر هذا التمسك عن حقيقة أن المذبحة باتت تمثل مسألة أكثر تعقيداً من حق مرسي في الرئاسة. لكن النظام الحاكم لم يبد أي مرونة إزاء هذه المطالبات. فعلى الرغم من أن جميع تقارير تقصي الحقائق أدانت الشرطة والجيش بارتكاب مخالفات متفاوتة، أدناها "استخدام القوة الغاشمة غير المتناسبة مع وضع المعتصمين"، لم تحرك الأجهزة القضائية أي اتهام ضد أي مسؤول بمحتوى تلك التقارير، بما فيها التقرير الحكومي الذي أعده وزير الشؤون النيابية الحالي، عمر مروان، إبان كونه مساعداً لوزير العدل، ولم تبال النيابة العامة بالمطالبات المتكررة من محامي "الإخوان" بالتحقيق في ظروف قتل المعتصمين ومصير الجثث التي ظلت محاصرة لساعات طويلة قبل نقلها من موقع الأحداث ودفنها.

جريمة بلا مجرمين

وزعمت النيابة أمام المحكمة أخيراً أن هناك قاضياً مستقلاً منتدباً من محكمة استئناف القاهرة للتحقيق في قتل المعتصمين، كجريمة مستقلة بذاتها عن جريمة الاعتصام. لكن المعلومات الواردة من وزارة العدل توضح أن هذه التحقيقات لم تتعد كونها "تجميعاً لمحاضر إثبات الوفاة وبعض محاضر الشرطة الإدارية التي وُثقت خلال ساعات الفض، وأُثبت فيها جميعاً أن الفض تم بواسطة قوات الشرطة بعد استئذان النائب العام الراحل، هشام بركات، بمعنى أن هذا الإذن كفيل بقوننة إجراءات الفض أياً كانت طبيعتها. لكن التبعية المطلقة للنيابة العامة والسلطة القضائية ككل للنظام، لا تبدو كافية ليأمن قادة السلطة الحاكمة، وقت فض الاعتصام، من خوف دفين مقيم من أي محاسبة مستقبلية أو إجراءات قضائية دولية من شأنها تعريض شخصيات نافذة للخطر، كالسيسي نفسه أو وزير الداخلية آنذاك، محمد إبراهيم، أو رئيس الوزراء آنذاك، حازم الببلاوي، أو رئيس الجمهورية المؤقت السابق، عدلي منصور، أو رئيس الأركان آنذاك ووزير الدفاع السابق، صدقي صبحي، وكذلك رؤساء وقادة الفرق الشرطية والعسكرية التي شاركت في عملية الفض. فبعد الفض بأشهر معدودة، اختفى وزير الداخلية الأسبق بعد خروجه من التشكيل الحكومي، فسافر فترة طويلة إلى دولة الإمارات، في خطوة فسرها المراقبون بأنها إمعان في حمايته، وبعد عودته ابتعد تماماً عن المشهد السياسي، شأنه شأن الببلاوي الذي ترك عمله في مصر وأصبح يقضي فترات طويلة في الولايات المتحدة.

ومنذ أيام معدودة، أصدر السيسي قانون معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة، والذي يجيز له إصدار قرار بتحديد بعض الشخصيات العسكرية ممن تولوا مناصب قيادية في فترة تعطيل الدستور، التي وقعت خلالها أحداث رابعة والنهضة، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم، أو بمناسبة توليهم مناصبهم، وكذلك منحهم حصانة دبلوماسية تقيهم الملاحقة القانونية خارج مصر. ويبدو السيسي نفسه على رأس الشخصيات العسكرية التي ستستفيد من هذا القانون، للإفلات من أي ملاحقة قضائية محلية أو دولية بسبب اعتصام رابعة، فهو المسؤول الأمني الأول في البلاد وقت الأحداث، ولن يكون بمعزل عن المحاسبة إذا تغير النظام السياسي، بثورة أو بطريقة سلمية. وحتى إذا لم تنته المساءلة بإدانته، فهو لا يرغب في وضع نفسه في موقف الرئيس المخلوع، حسني مبارك، الذي نال من محكمة النقض براءة باتة من تهمة قتل متظاهري ثورة 2011 بعد إجراءات استغرقت 5 سنوات. وبالتوازي مع هذا الاتجاه الرسمي للتحصين والحماية، مع صدور أحكام قضائية تدين المجني عليهم لا الجناة، يشكل النظام سردية جديدة قائمة على العبث العمدي بالوقائع التاريخية، تحمّل مسؤولية الدماء لجماعة الإخوان المسلمين وتعصم الجيش والشرطة من المحاسبة، وتختصر الدماء التي أريقت في بضعة أسطر مستمدة من حيثيات قضائية مرتقبة تصور الاعتصام وكأنه مجرد محاولة للخروج على شرعية مزعومة تصدت لها الدولة بنجاح لتحقيق الاستقرار.