هذا العام تحل الذكرى الخامسة للمذبحة في ذروة التطورات القضائية في محاكمة المعتصمين السلميين الذين نجوا، لحسن أو لسوء طالعهم، من المذبحة، وهذه التطورات تتجه في الأساس إلى كتابة سردية جديدة للمذبحة، شأن السرديات القضائية الأخرى التي كتبت لأحداث ما بعد 25 يناير/ كانون الثاني 2011.
وبدلاً من الاعتراف باستخدام القوة المفرطة، بحسب تعبير لجنة تقصي الحقائق الحكومية المصرية، يصور نظام السيسي ما حدث وكأنه كان معركة وجود بين تيار إرهابي وقوات الدولة، وأن كلا الطرفين كانا مسلحين، ولا عزاء لما أعلنه وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم من أن الشرطة وجدت في اعتصام رابعة 9 أسلحة آلية وطبنجة واحدة و5 فرد خرطوش، بعدما كان يُصور في وسائل الإعلام، وحتى الآن، بأن الاعتصام كانت به أسلحة ثقيلة.
ولذلك لم يكن غريباً أن تصدر محكمة جنايات القاهرة نهاية الشهر الماضي قراراً بإحالة أوراق 75 من قيادات وناشطي اعتصام رابعة إلى المفتي، تمهيداً لإصدار حكم بإعدامهم، إلى جانب عقوبات متوقعة تتدرج من السجن 3 سنوات إلى السجن المؤبد بحق نحو 650 آخرين على رأسهم المرشد العام لجماعة الإخوان محمد بديع والصحفي محمود شوكان.
فالسردية الرسمية للدولة مفادها أن الاعتصام كان خطراً على الأمن القومي، وأنه كان ساحة لارتكاب جرائم قتل وتعذيب لمعارضي مرسي ومؤيدي السيسي، وأن المحالين للمفتي حرضوا على قتل أفراد الجيش والشرطة خلال فض الاعتصام وما تلاه من أحداث شغب انتقامية ضد الأقسام في كرداسة بالجيزة وبعض محافظات الصعيد.
لكن الأجهزة القضائية لم تبد اهتماماً خلال نظر القضية بسبب مقتل عدد يتراوح بين 600 و700 من المواطنين العزل، فلا محاكمة أو مساءلة للمسؤولين عن الفض، مقابل اتهامات قانونية هشة للمعتصمين السجناء كتنظيم اعتصامات دون تصريح وتعطيل الطرق والمواصلات.
وزعمت النيابة أمام المحكمة أخيراً أن قاضيا مستقلا منتدب من محكمة استئناف القاهرة للتحقيق في قتل المعتصمين، كجريمة مستقلة بذاتها عن جريمة الاعتصام، لكن المعلومات الواردة من وزارة العدل توضح أن هذه التحقيقات لم تتعد كونها "تجميعاً لمحاضر إثبات الوفاة وبعض المحاضر الشرطية الإدارية التي وثقت خلال ساعات الفض، وأثبت فيها جميعاً أن الفض تم بواسطة قوات الشرطة بعد استئذان النائب العام الراحل هشام بركات، بمعنى أن هذا الإذن كفيل بتقنين إجراءات الفض أياً كانت طبيعتها.
إن المضي قدماً في إنتاج هذه الرواية الرسمية وتجذيرها ثم غلق ملفها يعبر عن الخوف الدفين من ظلها الثقيل، فالسيسي ومساعدوه وأنصاره لا يستطيعون التعامل بنزاهة وجرأة مع الإرث الثقيل لكل هذه الدماء المراقة، ولا أحد يجرؤ على تحمل المسؤولية أمام قضاء نزيه في الداخل أو الخارج، وبالتالي تكون ردة الفعل الطبيعية، والهروبية، رفض السيسي مطلقا للتعامل مع التيار الإسلامي بصفة عامة والإخوان بصفة خاصة، استمراراً لمسيرة إراقة الدماء، ثم تقديم المصابين والناجين والذين غادروا الموقع بوعود الخروج الآمن إلى محاكمات تفتقر لأبسط مقومات العدالة، ثم إعلان الإخوان جماعة إرهابية، ثم وضع السلطة التنفيذية -بمساعدة السلطة القضائية- يديها على أموال وعقارات الجماعة والقادرين من أعضائها وأنصارها.
يعبر هذا التسلسل وصولاً بقرار التمهيد الأخير لإعدام 75 شخصاً من المعتصمين عن رغبة السيسي وقيادة الجيش من خلفه في غلق أي منفذ قد تأتي منه مستقبلاً رياح المساءلة والمحاسبة.
لكن التبعية المطلقة للنيابة العامة والسلطة القضائية ككل للنظام الحاكم لا تبدو كافية ليأمن قادة السلطة الحاكمة وقت فض الاعتصام من خوف دفين مقيم من أي محاسبة مستقبلية أو إجراءات قضائية دولية من شأنها تعريض شخصيات نافذة للخطر، كالسيسي نفسه أو وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم أو رئيس الوزراء آنذاك حازم الببلاوي أو رئيس الجمهورية المؤقت السابق عدلي منصور أو رئيس الأركان آنذاك ووزير الدفاع السابق صدقي صبحي وكذلك رؤساء وقادة الفرق الشرطية والعسكرية التي شاركت في عملية الفض.
فبعد الفض بأشهر معدودة اختفى وزير الداخلية الأسبق بعد خروجه من التشكيل الحكومي، فسافر لفترة طويلة إلى دولة الإمارات، في خطوة فسرها مراقبون بأنها إمعان في حمايته، وبعد عودته ابتعد تماماً عن المشهد السياسي، شأنه شأن الببلاوي الذي ترك عمله في مصر وأصبح يقضي فترات طويلة في الولايات المتحدة.
ومنذ أسابيع أصدر السيسي قانون معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة، الذي يجيز له إصدار قرار بتحديد بعض الشخصيات العسكرية ممن تولوا مناصب قيادية في فترة تعطيل الدستور، التي وقعت خلالها أحداث "رابعة والنهضة"، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم أو بمناسبة توليهم مناصبهم، وكذلك منحهم حصانة دبلوماسية تقيهم الملاحقة القانونية خارج مصر.
وحاول عدد من النشطاء القانونيين الإخوان والحقوقيين على حد سواء، على مدار الأعوام الخمسة الماضية تحريك دعاوى أمام الجهات القضائية الدولية والمحلية في دول أجنبية لتوقيف السيسي وقيادات أخرى، باعتبارهم مسؤولين عن مذبحة تصنف كجريمة ضد الإنسانية، لكن الإجراءات لم تفلح حتى الآن.
ويبدو السيسي نفسه على رأس الشخصيات العسكرية التي ستستفيد من القانون الجديد للإفلات من أي ملاحقة قضائية محلية أو دولية بسبب اعتصام رابعة، فهو المسؤول الأمني الأول في البلاد وقت الأحداث، ولن يكون بمعزل عن المحاسبة إذا تغير النظام السياسي بثورة أو بطريقة سلمية، وحتى إذا لم تنته المساءلة بإدانته، فهو لا يرغب في وضع نفسه بموقف الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي نال من محكمة النقض براءة باتة من تهمة قتل متظاهري ثورة 2011 بعد إجراءات استغرقت 5 سنوات.
ويتكامل هذا الاتجاه الرسمي للتحصين والحماية مع صدور أحكام قضائية تدين المجني عليهم لا الجناة، تقوم على العبث العمدي بالوقائع التاريخية وتحمل مسؤولية الدماء لجماعة الإخوان وتعصم الجيش والشرطة من المحاسبة، وتصور الاعتصام وكأنه مجرد محاولة للخروج على شرعية مزعومة تصدت لها الدولة لتحقيق الاستقرار.
في موازاة ذلك يشكل الانغلاق في الأفق السياسي أحد أبرز هواجس السيسي فيما لم يجد أي اقتراح لمحاولة إنهاء الأزمة السياسية في البلاد تجاوباً من قبل النظام. وبرزت مقترحات ومبادرات على فترات متباعدة لم يتأخر النظام بالرد عليها عبر توجيه أذرعه الإعلامية للهجوم عليها. أما جماعة الإخوان فأعلنت بالتزامن مع الذكرى الخامسة لمجزرة رابعة مبادرة للخروج مما اعتبرته "النفق المظلم". وأعلنت الجماعة 10 بنود لما سمتها "دعوة للحوار الوطني"، قالت إنها أعلنتها "حرصاً على إخراج الوطن من النفق المظلم".
وتضمنت أبرز البنود العشرة التأكيد أن الجماعة فصيل وطني، وأن السلمية خيار التنظيم في التغيير والحفاظ على مؤسسات الدولة. كما تضمنت اعتبار الشعب المصدر الوحيد للشرعية، ورفض مناخ الاستقطاب، والتأكيد على أن حقوق الضحايا لا تسقط بالتقادم وأهمية تحقيق العدالة الناجزة. وقالت إن "أفضل طريق للخروج من هذا النفق المظلم هو عودة الرئيس محمد مرسي لسدة الحكم على رأس حكومة ائتلافية يتم التوافق عليها من القوى الوطنية لمدة محددة وكافية، يتم خلالها تهيئة البلاد لإجراء انتخابات حرة نزيهة تشرف عليها هيئة قضائية مستقلة، تتوافق عليها القوى الوطنية دون إقصاء لأحد".
وليست الملاحقة القانونية والانغلاق السياسي هما الهاجسين الوحيدين لدى السيسي، فرغم أنه انتزع اعتراف جميع الدول الكبرى بنظامه منذ 2015 إلا أنه يعلم جيدا كيف تقف عقدة الدماء عقبة أمام نيله الثقة الكاملة من الدوائر السياسية الغربية، خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.