كورونا: فرصة لتعزيز نفوذ الصين في آسيا الوسطى

17 ابريل 2020
جنود صينيون يتجولون في مورغاب بالقرب من قاعدتهم العسكرية(Getty)
+ الخط -

مع بدء تعافيها من تبعات فيروس كورونا المستجد، تتجه الصين إلى تحقيق مكاسب استراتيجية في بلدان آسيا الوسطى على حساب اللاعبين الدوليين الآخرين، وفي مقدمتهم روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي ظل المخاطر المتزايدة والتحذيرات من انعكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية لتبعات انتشار كورونا، يتطلّع قادة بلدان آسيا الوسطى إلى بكين من أجل تزويدهم بالخبرات اللازمة لمنع انتشار الوباء وتأمين المستلزمات الطبية للكشف عنه ومعالجته بالدرجة الأولى، فضلاً عن كسب دعمها مالياً واقتصادياً من أجل ضبط الأوضاع منعاً لأي احتجاجات أو اضطرابات، في ظلّ تراجع اقتصادات هذه الدول بسبب الأزمة.

وتبدو الفرصة سانحة للصين من أجل تعزيز وجودها المتزايد في جميع المجالات في هذه المنطقة مع انشغال الولايات المتحدة في معالجة تفشي كورونا فيها وتحولها إلى أكبر بؤرة عالمية له، وعجز روسيا عن مدّ يد العون في شكل فعّال في المجالات الطبية والمالية مع انهيار أسعار النفط وتأثيراته المتوقعة على الاقتصاد، إضافة إلى انعكاس الأزمة سلباً على ملايين العمال من آسيا الوسطى في روسيا وتوقعات بتراجع أعدادهم مع انهيار سعر صرف الروبل، وحملات التسريح بسبب تراجع النمو، والمصير المجهول لشكل أوروبا بعد الخروج من شبح كورونا. وبرزت المساعدات الصينية أخيراً مع إرسال بكين معونات طبية عاجلة إلى أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، ذكرت أنها من إقليم شينجيانغ ذي الغالبية المسلمة. وتضمنت المساعدات أجهزة تنفس اصطناعية وبدلات واقية للكادر الطبي وكمامات. كما باشرت الصين بإرسال فرق طبية مختصة لمحاربة كورونا.

وتسمح قدرات الصين وخبراتها في دعم القطاع الصحي في هذه البلدان، كما أن إمكاناتها الاقتصادية والمالية تؤهلها لزيادة دورها عبر تقديم القروض والمساعدات لمنع انهيار اقتصادات هذه البلدان والتخفيف من الآثار الاجتماعية والسياسية للأزمة، ما يشجعها على كسر التوافقات الضمنية السابقة مع روسيا، والقاضية بأن تتولى موسكو هندسة القضايا الأمنية والسياسية فيما تتكفل بكين بمواضيع الاقتصاد والتنمية، إلا أن الصينيين باشروا توسيع نفوذهم السياسي والعسكري في المنطقة.

رسمت الصين منذ عقود استراتيجيتها الخاصة في آسيا الوسطى انطلاقاً من سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان وعلاقاتها الثنائية، وركزت على التعاون الاقتصادي، ما جعلها شريكاً مناسباً. واقتصرت الطلبات الصينية على الالتزام بمبدأ "الصين الموحدة"، و"عدم دعم النزعات الانفصالية في إقليم شينجيانغ"، و"عدم السماح بتسرب الإرهاب إلى الصين".

بنت الصين علاقات مع هذه المنطقة استناداً إلى التعاون الأمني ومنع وصول الإرهاب إلى داخلها واعتبار بلدان آسيا الوسطى منطقة عازلة بين مناطقها الغربية ذات الغالبية المسلمة وأفغانستان، فضلاً عن رفع منسوب التعاون الاقتصادي نظراً لغنى هذه البلدان بالموارد الطبيعية ومصادر الطاقة اللازمة لزيادة النمو الاقتصادي، واضافة إلى كونها سوقاً كبيرة للبضائع الصينية، فإن موقع بلدان آسيا الوسطى في وسط أوراسيا يزيد أهميتها كمركز لعبور البضائع الصينية إلى أوروبا والعالم ضمن مشروع "الحزام والطريق".



وجود شبه عسكري
وعلى الرغم من أن المصالح الأمنية والمحافظة على منع انتقال الإرهاب إلى داخلها من الأولويات القصوى بالنسبة للصين، فإنها لم تسع إلى وجود عسكري دائم في المنطقة، واستخدمت آليات منظمة شنغهاي للتعاون المعتمدة على الوجود الروسي أساساً في المنطقة، ولكن منذ عام 2015 بدأت الصين بالتمهيد لوجود شبه عسكري في طاجيكستان، فافتتحت أخيراً قاعدة في منطقة مورغاب في مقاطعة غورنو باداخشان ذات الحكم الذاتي في طاجيكستان، بالقرب من الحدود مع أفغانستان والصين، وموّلت بناء هذه النقطة الحدودية للقوات الطاجيكية. وسبق أن تمّ توقيع اتفاق بين حكومتي طاجيكستان والصين بشأن بناء سبع نقاط حدودية ومراكز تدريب على الحدود الطاجيكية ـ الأفغانية في عام 2016. وشيد الصينيون ثلاثة مكاتب للقيادة وخمس نقاط حدودية ومركز تدريب، ونشرت في المنطقة وحدات من الشرطة الصينية المعنية في محاربة الإرهاب بالأساس. وعلى الأرجح فإن مهمة هذا الوجود هي منع انتشار الإرهاب في المنطقة وكذلك في إقليم شينجيانغ امتداداً من أفغانستان، فالمتشددون يمكنهم الانتقال إلى غرب الصين مباشرة عبر ممر واهان، وهو منطقة جبلية ضيقة غير مسيطر عليها جيداً على الحدود مع أفغانستان، أو عبر الأراضي الطاجيكية.

ومنذ عام 2016، نظم الجيش الصيني ستة تدريبات مع جيوش دول آسيا الوسطى، منها اثنان بمشاركة منظمة شنغهاي للتعاون. كما تؤدي الشرطة المسلحة الصينية دوراً متزايداً في الدبلوماسية العسكرية لبكين في المنطقة، ففي عام 2019، أطلقت الصين نوعاً جديداً من التدريبات، بعنوان "التعاون 2019" بين القوات شبه العسكرية للدول، وذلك في مايو/أيار مع الحرس الوطني لأوزبكستان في منطقة جيزاخ، وفي أغسطس/آب مع الحرس الوطني القرغيزي في أورومتشي (مدينة في مقاطعة شينجيانغ). ومع تطور صناعاتها العسكرية بدأت الصين بتزويد بلدان آسيا الوسطى بمختلف أنواع الأسلحة، ومنها طائرات درون من دون طيار، ومدرعات وأنظمة دفاع جوي محمولة من الجيل الثالث، ورادارات متنقلة. ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية حول المساعدات العسكرية الصينية فالواضح أنها تتزايد، ويمكن أن تصبح أكبر مقارنة بالمساعدات الروسية نظراً لأن الموازنة الدفاعية للصين تفوق نظيرتها الروسية مرات عدة.

استثمارات وقروض
اقتصادياً، تطورت العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول آسيا الوسطى إلى حد كبير منذ استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات، ومع تعطل دورة الإنتاج وفقدان السلع الأساسية في الأسواق دخلت الصين وتركيا وإيران لتغطية النقص، بعدها وسّعت الصين حصتها على حساب هذه الأطراف فضلاً عن روسيا التي كانت تغوص في مشكلاتها الداخلية. ثم دخلت الصين وروسيا والولايات المتحدة في صراع خفي حول موارد الطاقة في كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان على وجه التحديد، ومعروف أن صادرات الطاقة من هذه الدول حسب مؤشرات عام 2019 تشكل 63 في المائة في كازاخستان و90 في المائة في تركمانستان و91 في المائة في أذربيجان، لكن الصين تستأثر حالياً بنحو 80 في المائة من إنتاج الغاز في تركمانستان بعد تخلّي "غازبروم" الروسية نهائياً عن عقد لاحتكار معظم صادرات الغاز منها في 2016، بعد مشاكل متواصلة منذ عام 2009.

وبنت الصين خطوط نقل للغاز التركماني عبر بلدان آسيا الوسطى، وأصبحت المستورد الأول للنفط الكازاخي، مع استئثار شركاتها بإنتاج نحو ثلث النفط في كازاخستان، أي ما يعادل حصة شركة النفط الوطنية الكازاخية "كازمونايغاز"، وتنقله عبر أنابيب تمر بأوزبكستان لتغطية الطلب المتزايد من الاقتصاد الصيني على الطاقة. وتستورد الصين 10 في المائة من المواد الكيميائية غير العضوية من بلدان آسيا الوسطى. وحسب البيانات الصينية في 2018، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وبلدان آسيا الوسطى الخمسة 41.7 مليار دولار، مرتفعاً من نحو 1.8 مليار في عام 2000، وتبلغ حصة الصين حالياً 22 في المائة من جميع صادرات هذه البلدان، و37 في المائة من وارداتها.



وإلى جانب التجارة النشطة، باتت الصين أهم مصادر القروض الأجنبية لهذه البلدان، وحصلت قيرغيزستان على 1.7 مليار دولار، نحو 45 في المائة من إجمالي القروض الأجنبية من الصين، وحصلت طاجيكستان على 1.2 مليار بواقع 52 في المائة من حجم قروضها الأجنبية. ولا يبدو الوضع أقل كثيراً بالنسبة للبلدان الأغنى، فتركمانستان مدينة للصين بنحو 16.9 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، وأوزبكستان بنحو 16 في المائة، وكازاخستان بنحو 6.5 في المائة. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وعدم قدرة هذه البلدان على سداد الديون، فإن النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني في هذه البلدان مرشح للتزايد، خصوصاً أن روسيا لن تستطيع تقديم قروض إضافية مع توقعات بتأثيرات اقتصادية كبيرة لتراجع النفط وأزمة كورونا.

ومع ارتفاع الاستثمارات الصينية المباشرة إلى 14.7 مليار دولار في هذه البلدان، تزداد سيطرة رجال الأعمال الصينيين على قطاعات اقتصادية واسعة فيها. وإضافة إلى القروض والاستثمارات المباشرة، ضخّت الصين عشرات المليارات في مبادرة "الطريق والحزام"، وكان لافتاً إعلانها عن المبادرة في 2013 من كازاخستان لا من روسيا، قبل أن تتوافق لاحقاً مع موسكو في 2015 على المواءمة بين مشروع الاتحاد الأوراسي الروسي مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق وبين مشروع الصين. ولكن من الواضح أن مشروع الصين أوسع كثيراً وأكثر قدرة على الحياة من مشروع روسيا نظراً لحجم الاستثمارات الصينية، وتنافس آسيا وأفريقيا على الدخول في المشروع الصيني الطموح.

غزو ثقافي
وعلى الرغم من العلاقات التقليدية القوية بين روسيا وبلدان آسيا الوسطى في المجالات الإنسانية والاجتماعية والثقافية، إلا أن اللغة الصينية بدأت تغزو بلدان آسيا الوسطى مع إقبال عشرات الآلاف على تعلمها في فروع معاهد اللغة الصينية في آسيا الوسطى على أمل الحصول على عمل. وحالياً يتابع نحو 30 ألف طالب من هذه البلدان دراستهم المجانية في الصين، ومن الطبيعي أن هذا الرقم ما زال ضعيفاً مقارنة بنحو 130 ألف طالب يدرسون في المعاهد والجامعات الروسية، منهم 59 ألفاً على حساب الحكومة الروسية، وانتشار مدارس اللغة الروسية في هذه البلدان من أجل الحصول على فرصة لاستكمال التعليم في روسيا أو العمل فيها، لكن عدم استقرار سوق العمل الروسية مع موجات تسريح دورية بسبب الأزمات، وتراجع قيمة الروبل، إضافة إلى تفشي العنصرية ضد الآسيويين في روسيا، مجتمعة، تسببت في تعزيز مواقع الصين على المدى البعيد.

وواضح أن تبعات أزمة كورونا سوف تسهم في اختلال التوازن الهش الذي ينظم مصالح الأطراف الدولية الفاعلة في آسيا الوسطى لصالح الصين، التي يمكن أن تزداد شهيتها من أجل توسيع نفوذها السياسي والعسكري بعدما حصّنت أوضاعها الاقتصادية. ويبدو أن جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأخيرة في آسيا الوسطى مطلع شهر فبراير/ شباط الماضي لن تسهم في إبعاد هذه البلدان عن الصين التي ترى فيها منقذاً بسبب الأوضاع الراهنة مع تركيز واشنطن على إنقاذ ولاياتها، والمصير غير المعروف للاتحاد الأوروبي بعد الخروج من كارثة كورونا. ويمكن أن تكون روسيا أيضاً أكبر الخاسرين، فطبيعة اقتصادها المعتمد على صادرات الطاقة والخامات، والتوقعات بركود طويل بفعل الضربة المزدوجة (انهيار النفط، وخسائر كورونا) ستزيد من ضعف دورها اقتصادياً وسياسياً، بالتالي فإن حاجة الصين إلى دعم بلدان آسيا الوسطى لمنع انتقال الإرهاب، وإحباط أي محاولة انفصالية للمناطق ذات الغالبية المسلمة فيها يزيدان من نفوذها، خصوصاً في ظل تخوف بلدان هذه المنطقة من تكرار سيناريو شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمّتها روسيا في عام 2014 نظراً لوجود أقليات روسية وازنة. عملياً، تمهّد كارثة كورونا العالمية لمرحلة جديدة من الوجود الصيني في آسيا الوسطى، وانتقالها من البحث عن أسواق وخامات ومصادر الطاقة وزيادة الاستثمارات في هذه البلدان، إلى بناء قواعد عسكرية لحماية مصالح بكين وتعزيز نفوذها السياسي والثقافي.



دلالات
المساهمون