بديل ترامب لأوسلو: معاقبة الفلسطينيين ومطالبتهم بالاستسلام

14 سبتمبر 2018
تسريع الإجراءات الانتقامية ضد الفلسطينيين (طوماس كويس/فرانس برس)
+ الخط -

إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مثل رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لا تطيق ذكر اتفاقية أوسلو، لذا قامت بالنيابة عنه، وربما بطلب منه، بدفنها من خلال خطواتها الأخيرة التي انتهت مطلع الأسبوع بإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. 

وبذلك انتقلت واشنطن من سياسة الحوار إلى السياسة "العقابية"، كما وصفها أمس صهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر، زاعماً أنها "لن تؤثر على فرص السلام". 

قصده الضمني أنها تسرّع فرص الاستسلام الفلسطيني، وكان تلميحه واضحاً في هذا الخصوص عندما قال إن كل ما يعمله هو "التعامل مع الوضع كما نراه"، أي كما هو على الأرض، والقائم على أرض الواقع لا يحتاج إلى دليل، وكل المطلوب من الفلسطيني إعلان رضوخه  للإملاءات، بدءا من تقبّل القدس كعاصمة لإسرائيل، إلى قبول شطب حق العودة، فضلاً عن التسليم بالواقع الاستيطاني، وتلبية الحاجات الأمنية الإسرائيلية التي "لا تقبل النقاش". 

في المقابل، يجري تعويض التنازل الوطني الفلسطيني بإغراءات مالية واقتصادية، حسب ما يسرب فريق كوشنر عن خطته الموعودة، التي يقول جيسون غرينبلات، معاون كوشنر، إنها صارت على عتبة الكشف عن تفاصيلها.

"رفض خطة الصهر، الذي حاول تجريعها للرئيس الفلسطيني محمود عباس عبر قنوات يُفترض أنها مقربة من أبو مازن ومؤثرة عليه"، حسب مصدر في واشنطن، أدى إلى تسريع الإجراءات الانتقامية، ومنها إغلاق البعثة الذي أخذ طابع الطرد.

وجاء الإغلاق، بصرف النظر عن هذا الطابع، من ضمن سياق مرسوم بدأت حلقاته في موضوع القدس. "لقد اعتمدنا مقاربة مختلفة، لأن القديم الذي جرى تجريبه لم ينفع". مقولة كررتها أمس المتحدثة الرسمية في وزارة الخارجية. حتى دور "الوسيط " المنحاز في كل حال، الذي اعتمدته الإدارات السابقة؛ تخلت عنه إدارة ترامب. استبدلته بدور "المبلِّغ" لعرض جرت حياكته على قياسات المطالب والشروط الإسرائيلية، وطُلب من السلطة الفلسطينية البصم عليه، وإلا تعرضت للمعاقبة. 

قول الإدارة إن اوسلو لم تنفع حق أريد به باطل. لا جدال أنه كان تمرير وقت بلا جدوى. لكنه كان كذلك نتيجة للتماهي الأميركي مع مماطلات وتحايلات إسرائيل لتفريغه وتعطيل بلوغه محطة الدولتين. 

من البداية، وبخاصة بعد أوسلو، دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تفريغ وساطتها في عملية السلام من أي دور غير المسهّل لتعجيزات إسرائيل. تلطت في ذلك خلف ثلاث مقولات: أن "المفاوضات الثنائية المباشرة" هي السبيل الوحيد إلى السلام، وأن أميركا "لا تقوى على فرض التسوية"، وأن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"، وكلها كانت موجهة إلى الطرف الفلسطيني لتأمين الاستفراد الإسرائيلي به. 

كانت واشنطن تتدخل لتجريع الفلسطينيين شروط إسرائيل، أو للضغط عليهم للتنازل. في المقابل، تكرمت عليهم فقط بالوعود الفضفاضة والطمأنات الخاوية. 

 

وزير الخارجية الأسبق، جيمس بيكر، قدم تعهدا خطيا بعدم التصرف بالقدس إلا بعد التوافق الفلسطيني الإسرائيلي حولها. وفي إحدى الروايات أن الرئيس بيل كلينتون كان يكتفي "بوضع يده على صدره موحياً من دون كلام بأنه سوف يأخذ الأمر على عاتقه"، ليطمئن الرئيس الراحل ياسر عرفان، الذي اشتكى له من التعجيزات الإسرائيلية. 

طبعاً بقيت حركته حبراً على ورق، وكذلك بقيت كل وعود من سبقوا كلينتون ومن جاؤوا بعده. توزعت إسرائيل وواشنطن الأدوار: الأولى تتولى تدويخ المفاوض الفلسطيني، والثانية تعمل على تخديره بالوعود التي تبخرت كلها، ولذلك كان الفشل خاتمة أوسلو، وكان من السهل على ترامب أن يعلن جنازتها. 

التفشيل متراكمة حلقاته، وبمساهمة واشنطن، التي تعرف تماماً ما تسعى إليه تل أبيب، وتعرف أنه من دون التصدي للمماطلة الإسرائيلة لا مجال للتوصل إلى تسوية.

 مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، زبغنيو بريجنسكي، كان يردد، طبعاً بعد خروجه من الحكم، أنه "لا يُكتب النجاح لأي عملية سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل إلا إذا وضعت واشنطن خطة لهذه العملية وطالبت الطرفين بقبولها. فإسرائيل قوية جداً ومقسومة، والجانب الفلسطيني ضعيف جداً ومنقسم، إذاً لا يقوى أي منهما على التوصل إلى اتفاق مقبول من الآخر". 

كلامه أثبتته تجربة أوسلو بصورة لا تقبل الجدل. والرجل كان من أهم صناع القرار الخارجي خلال رئاسة كارتر، ومن أهم المؤثرين في صياغته لاحقاً، وهو يعرف تماماً أن مثل هذه القدرة متوفرة لدى واشنطن، ولا تحتاج سوى إلى قرار يضعها موضع التنفيذ. لكن هذا القرار غير وارد، فالموانع في طريقه كثيرة وكبيرة، أهمها شبه التطابق الأميركي مع المصالح الإسرائيلية، بالرغم من ضيق واشنطن منها أحياناً.

على هذه الأرضية التي لم تتغير منذ اعتراف الرئيس هاري ترومان بقيام إسرائيل، ولدت اتفاقية أوسلو. كانت ولادة ميتة، أو محكومة بالموت، وتعامل الإدارات السابقة مع القضية الفلسطينية وتركها الحبل على غاربه لإسرائيل فتحا للرئيس ترامب باب الانقضاض عليها. 

 ترامب يدرك تماماً أن "خطته" لا تصنع السلام، هي فقط للاستعراض.