وبغض النظر عن الآليات التي ستتبعها السلطات التونسية في متابعة المقاتلين العائدين، أو كيفية تعاطيها مع الظاهرة الإرهابية، فإنّ ما يعقّد الملف أكثر هو الغموض الذي يلف هذا الموضوع، فالمعلومات تعتبر جد شحيحة عن أعدادهم، وعن الأسماء المطلوبة للعدالة، وباستثناء أعداد قليلة ممن وردت أسماؤهم ضمن التحقيقات الرسمية التونسية، فإن الكثير منهم لم تذكر هويته مطلقا.
ويؤكد خبراء أمنيون أن الرؤوس الكبيرة من المقاتلين في بؤر التوتر لن يعودوا إلى تونس، وأن العودة ستشمل الصفوف الوسطى والمقاتلين الصغار، مشيرين إلى أنّ الإجراءات التي اتخذتها تونس لا تزال دون المأمول.
ورغم أن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، أعلن أن عدد الإرهابيين التونسيين خارج تونس يقدر بنحو 2926 شخصا، وأن هذا الملف "تحت السيطرة"، وأن الإرهابيين يتوزعون بين 4 في اليمن و20 في مالي والباقي بين سورية والعراق وليبيا، بحسب معطيات وزارة الداخلية، إلا أن المعطيات التي يقدمها عديد الخبراء والناشطين مخالفة لهذه التوقعات.
"ضمن طريق الموت، لن تكون العودة سهلة، فعدد كبير سيلقى حتفه مقتولا أو يفجّر نفسه، أو يتمّ اعتقاله، لكن نسبة هامة سترجع حتما"... بهذه الكلمات تحدث الخبير الاستراتيجي في الشؤون الأمنية والعسكرية والإرهاب، مازن الشريف، عن عودة المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر ضمن كتابه "العودة من الجحيم".
ويؤكد الشريف لـ"العربي الجديد" أنّ هناك تذبذبا في الموقف الرسمي، ولا يوجد موقف واضح من مسألة عودة المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر، برغم أن المسألة تتعلق بالأمن القومي، مبينا أهمية الاحتكام إلى القانون في التعامل مع الإرهابيين العائدين، وأشار إلى أن تونس منخرطة في القانون الدولي، وبالتالي فإن جل العقوبات التي ستسلط على هؤلاء موجودة ضمن بنود القانون.
واعتبر الشريف أنّ الإرهابيين قاموا بجرائم حرب، ولا بد من تفعيل القانون في اتجاه حماية الأمن القومي، معتبرا أنّ هذا لا يعني إيقاع عقوبة الإعدام عليهم، بل محاسبة كل شخص بحسب الجرم الذي ارتكبه.
حقيقة الأرقام
ودعا الشريف إلى مصارحة الشعب التونسي، خاصة أن تقارير بريطانية تحدثت سابقا عن وجود 13 ألف تونسي في بؤر التوتر، وأن 2000 قتلوا و1200 اختفوا، مضيفا أن مجموعة عبد المالك درودكال المدعو "أبو مصعب عبد الودود" تضم لوحدها 400 مقاتل تونسي في مالي، كما تحدث وزير الداخلية التونسي بن جدو عن منع 15 ألف تونسي من السفر، ما يعني، وفق الشريف، أنه لا يمكن الحديث عن 3 آلاف كما أشار الرئيس التونسي، أو عن 4 مقاتلين في اليمن و20 في مالي، مشيرا إلى أن ليبيا لوحدها يوجد فيها ما بين ألفين و3 آلاف مقاتل تونسي ممن بقوا على قيد الحياة من مجموع 5 آلاف مقاتل موزعين في بقية بؤر التوتر، وفق تقارير مختلفة.
أخطر المطلوبين
من جانبه، رأى الخبير في الجماعات الإرهابية، باسم السندي، أنّ أخطر القياديين الإرهابيين هو سيف الله بن حسين المعروف باسم "أبو عياض"، وهو من القيادات التي عاشت في تونس ولديه نفوذ على المقاتلين التونسيين، ويعد الرقم الأصعب في تونس، والرأس المدبر والمخطط لكثير من العمليات الإرهابية.
وبين السندي، لـ"العربي الجديد"، أنه في حال القضاء على المدعو "أبو عياض" يمكن القول أنه تم القضاء على 80 بالمائة من الإرهاب في تونس؛ لأنه يعرف جل الخلايا ويتواصل معها، ما يعني أن "أبو عياض" يعد أخطر الإرهابيين الذين تخشى تونس عودتهم.
وبين السندي أنّ "بلال الشواشي"، هو أيضا قيادي خطير، ولكن بعكس "أبو عياض" ليس لديه علاقات كبيرة في تونس وتأثيره ودوره يبقيان محدودين، موضحا أن القياديين الآخرين الذين يتم تداول أسمائهم في سورية والعراق لا يعدون قياديين بارزين، وأن خطرهم الوحيد يكمن في إمكانية عودتهم، بسبب المهارات القتالية التي اكتسبوها في بؤر التوتر، ولكن تنظيميا ليس لهم أتباع وتأثيرهم ليس كبيرا، لأن أغلبهم صنعوا نجوميتهم في أماكن قتالهم.
وأشار السندي إلى أن القيادات المسيطرة على الكتائب في الجبال التونسية في الكاف وورغة وجندوبة أغلبها جزائرية، أما العناصر التونسية فهي غير معروفة، وأنّ أسماء مثل صلاح الدين القاسمي وطارق الصحراوي وسليمان بالرزيق هي من الصف الثالث، لكنها تتواصل مع القيادات في ليبيا والجزائر.
ترقب وانتظار
من جهته، قال الخبير الأمني، والمختص في الجماعات الإسلامية، علية العلاني، إن عدداً كبيراً من المقاتلين التونسيين قضى بسورية والعراق، وأن عديد المعلومات تشير إلى أن من بين الدواعش الذين قتلوا تونسيين، خاصة في الآونة الأخيرة، مبينا أنّ السلطات التونسية لا تريد البت في مسألة عودة المقاتيلن إلى حين الحصول على أعداد الذين قضوا في الغارات الأخيرة، وأولئك الذين تم القبض عليهم، والراغبين في العودة، مضيفا أنّ القصف كان كبيرا في سورية وأن عددا كبيرا من الدواعش التونسيين قتلوا.
وبين العلاني أنّ عودة المقاتلين إلى تونس إن صحّت؛ فإنها لن تتجاوز الألفي شخص، باعتبار أن الكثير من القتلى لم يتم التعرف عليهم، مبينا أن السلطات التونسية تتوقع أن يصبح العدد أقل مقارنة بالسابق، وخاصة أن الكثير من المقاتلين الأجانب ستتم تصفيتهم في الأشهر القليلة القادمة، وذلك بعد التصريحات المتواترة بأنه "لا هدنة مع داعش".
وأوضح أن السلطات التونسية تريد الاستفادة من عامل الوقت. ورأى أنه رغم تصريح رئيس الجمهورية بوجود 2926 مقاتلا تونسيا بالخارج، وتأكيده أنه مع محاكمة هؤلاء وفق قانون الإرهاب، إلا أن الدولة قد قبلت ضمنيا العودة، مشيرا إلى أن هناك ترقبا حذرا في انتظار اتضاح الصورة أكثر، وربما انتظار ظهور نتائج الحرب في سورية.
وأكد العلاني أنّ هناك عديد القيادات من الصف الأول والثاني في القاعدة وداعش قتلت، وهو الأمر الذي قد يخفف العبء على السلطات التونسية عند عودة المقاتلين، مثل "أبوسياف" (قتل في مايو/أيار 2015)، و"أبوعبد الله التونسي" (قبضت عليه السلطات التونسية)، وهم من بين الأسماء التي تردد ذكرها في سورية والعراق، مرجحا ألا يعود من تبقى على قيد الحياة إلى تونس. وهؤلاء قد يقدر عددهم بالعشرات، وقد لا يتجاوز المائة، مثل: سيف الله بن حسين المعروف بـ"أبوعياض" ومساعديه، وأغلبهم من القيادات العسكرية الميدانية القديمة، وكانت موجودة قبل 2011 ويلقبون بـ"الأفغان العرب"، ومن الصعب أن يعودوا إلى تونس.
وأوضح العلاني، أن عددا من المقاتلين التونسيين توجهوا إلى غرب أفريقيا، عدد منهم يوجد الآن في الصحراء الليبية بحثا عن ملاذ آمن متى أتيحت لهم الفرصة، مؤكدا أن هؤلاء يدركون جيدا أن عودتهم ستكون مكلفة جدا في ظل قانون الإرهاب والعقوبات التي تصل إلى حد الإعدام.
ثكنة لإيواء العائدين
وبين العلاني أنه وبحسب معطيات تحصل عليها من مسؤولين تونسيين، فإن هناك توجها لاستعمال إحدى الثكنات مركزا لإيواء المقاتلين العائدين، مثل ثكنة بوفيشة وسط تونس، منبها إلى أنّ وضع العائدين من بؤر التوتر مع المساجين العاديين أمر مرفوض.
وبالتالي، فإنه من المناسب جدا تخصيص مكان خاص للإيقاف، ثم التحقيق معهم بشكل مفصل حول كامل المسار، ومعرفة الأماكن التي تدربوا فيها على الأسلحة ونوعية هذه الأسلحة والتنظيمات التي قاتلوا فيها، وهل لهم علاقة بتنظيمات أخرى؟ مؤكدا أن هذه المعطيات ستشكل قاعدة بيانات للحاضر، والمستقبل لأن "الظاهرة الجهادية" ستشهد تغيرات كبيرة في الفترة القادمة، خاصة مع تولي الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، كما أن برنامج التأهيل يستغرق وقتا طويلا، وقد يستغرق عدة سنوات.