ترامب المسكون بالتوجّس والهوس

25 يناير 2017
واشنطن منشغلة بتوجسات ترامب(نيكولاس كام/فرانس برس)
+ الخط -



انشغلت واشنطن في الأيام الثلاثة الأولى من رئاسة دونالد ترامب، بتوجساته أكثر مما انشغلت بالمراسيم التي أصدرها، وأخذت الطابع الانقلابي على تركة الرئيس باراك أوباما، فعودة ترامب المفاجئة إلى سيرة الانتخابات وتصعيد خصومته المفتعلة مع الصحافة، فضلاً عن تجديد هلوساته بشأن السيطرة على نفط العراق، قابلها المراقبون بالذهول والتحسّر.

فجأة استحضر الرئيس موضوع الانتخابات بالرغم من كونها صارت من الماضي، فقط ليكرّر زعمه بأنّ أصوات المقترعين غير الشرعيين، من أموات ومقيمين بصورة غير قانونية، والتي بلغت حوالي 3 إلى 5 ملايين صوت، هي التي قلّصت حصّته من الأصوات الشعبية بحيث جاءت أقل من حصة منافسته هيلاري كلينتون بثلاثة ملايين صوت.

زعم مختلق لم يأخذ به حتى الجمهوريون، فالانتخابات مضى عليها شهران ونصف، وترامب الآن أصبح رئيساً، ولا جدال حول فوزه بأصوات المجمع الانتخابي. مع ذلك قضى بين عشر إلى خمس عشرة دقيقة في الحديث عن هذه الملايين غير الشرعية المزعومة، خلال اجتماعه بقيادات الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، للتداول معهم حول الأولويات التشريعية.

بيد أن فتح هذا الملف من جديد في جلسة من هذا النوع وبصورة مطولة استغربها الحضور، لم يكن ذلك صدفة غير محسوبة، فعلاوة على أنّ ترامب مهووس بالتفوّق حتى بعد أن صار في سدة الرئاسة ولا يترك مناسبة من دون التأكيد عليه، إلا أنّه أراد من إسهابه في هذا الحديث أمام زوّاره من الكونغرس، إبلاغهم على ما يبدو رسالة مفادها بأنّ المشكلة في الانتخابات كانت في التزوير، وليس في التدخّل الروسي، وبالتالي عليهم صرف النظر عن التوجّه المشترك في الكونغرس لفرض عقوبات على موسكو، رداً على قرصنتها الانتخابية التي ما زال ملفها مفتوحاً على المزيد من التحقيقات، فترامب ليس في وارد الموافقة على مثل هذه الخطوة. بل إنّه يتجه نحو رفع العقوبات السابقة على روسيا.

وإذا كان هذا الموضوع قد أثار الدهشة، فإنّ تصعيد الرئيس لهجومه على الصحافة أثار النقمة والتخوّف، ليس من باب الدفاع عن الإعلام، بل لأنّ حيثياته ضدّها، تنقض الواقع الصريح وتفتعل خصومة ذرائعها مفضوحة، فهو لم يتردّد أثناء زيارته لمقرّ وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، في زعم أنّ الصحافة هي التي دقت إسفين الخلاف بينه وبينها، مع أنّ تشبيهه للمجتمع الاستخباري بـ"النازية" موثق في إحدى تغريداته على حسابه في "تويتر"، عندما تكشفت مسألة القرصنة الروسية، وما تبعها من معلومات حول وجود وثائق مصوّرة محرجة للرئيس، بيد الروس.

لكنّ تعميق ترامب لخصومته مع الصحافة، ليس صدفة أيضاً ولا تعبيراً عن نزوة انفعالية، بل هو تصعيد متعمّد، إذ إنّ الرئيس الجديد يحتاج دائماً إلى "عدو" مثل الإعلام يلصق به تهمة التجنّي لوضعه في موقع الدفاع، ولاستخدام معارك كوسيلة لصرف الأنظار عن قضايا محتدمة يكون ترامب طرفاً فيها.

غير أنّ مثل هذه الخصومة المبكرة التي خلقها ترامب أثارت مخاوف كثيرين من لفيفه ومعاونيه، فالصحافة في أميركا مؤسسة نافذة بل سلطة رابعة فعلاً، وإلى حدّ بعيد، ويعرف منْ حول الرئيس الجديد، أنّها أطاحت ذات يوم برئيس ناصبها العداء من البداية، حين أغرقت الرئيس ريتشارد نيكسون من خلال نبشها فضيحة "ووترغيت". وقيل إنّ مقربين من ترامب قاموا بمفاتحته بضرورة تلطيف خطابه مع الصحافة، أو على الأقل الكف عن افتعال مواجهات، لكن لا مراهنة على استجابته.

وحتى يكتمل المشهد المحرج والفاضح، عاد ترامب مرة أخرى إلى تخريفة سبق له أن نطق بها أثناء الحملة الانتخابية، في سياق تسجيل مآخذه على حرب العراق، حين قال إنّه كان على واشنطن وضع يدها على نفط العراق، وحراسة منابعه لضخه ونقله إلى شواطئها! صدور مثل هذا الكلام آنذاك عن مرشح رئاسي، أثار الاستغراب ولو كبضاعة انتخابية، أما أن يصدر الآن عن ترامب الرئيس، فمسألة أخرى كشفت عن محدودية وسطحية مخجلة، أحرجت حتى الجمهوريين مثل السناتور جون ماكين الذي امتنع عن التعليق على هذه الهلوسة.