72 عاماً على النكبة: انعدام الإرادة يهدد بنكبات مقبلة

15 مايو 2020
يتمسك الفلسطينيون بحق العودة (Getty)
+ الخط -


لا يمكن عزل أسبوع الذكرى الثانية والسبعين لنكبة فلسطين عن المجريات المتسارعة على مدار العام الحالي، وآخرها لجوء السلطة الفلسطينية إلى طلب قرض من حكومة الاحتلال، في الوقت الذي تمدد فيه هذه الحكومة مشاريعها الاستيطانية للإطباق على ما بقي من فلسطين التاريخية تحت قبضتها بتأييد أميركي واضح معلن وصمت عربي إلا من احتجاجات خفيفة هنا وهناك، تعلوها مظاهر تحالف عربي مع الصهيونية فكراً ورواية، وضياع الإرادة السياسية للقيادات المتحكمة بما بقي لها من رقاب الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، وتجاهل شبه مطلق إلى حد التنكر لمصير اللاجئين الفلسطينيين، الذين اشتعلت الثورة الفلسطينية عام 1965 أصلاً لإعادتهم إلى الوطن السليب.

تأتي الذكرى الثانية والسبعين لنكبة فلسطين، لتعيد التذكير مجدداً بحجم الجريمة التاريخية ضد شعب مسالم على أرضه وفي وطنه، ولتنذر بفصول نكب جديدة إضافية تأتي على ما بقي من الوطن وتحوّل من فيه، سواء في "البئر الأولى" التي سقطت في عام 1948، أو الأراضي المحتلة عام 1967، إلى مجرد رعايا يعيشون بفضل كرم المستعمر المحتل، مهما اختلفت ظروف المعيشة لمن في فلسطين، ومهما تفاوتت نسبة "الراحة" والرفاهية، وسواء كانوا مجرد "مقيمين" وفق المكانة الممنوحة للمقدسيين، أو مواطنين "رسميين" في أراضي 1948، أو مجرد فلسطينيين تتحدد مكانتهم "بشبه هوية فلسطينية" تبعاً لتصنيف البونتستان الذين يقيمون فيه في الضفة الغربية، سواء كان تصنيفه "أ" أم "ب" أو "ج".

ولعل استشهاد شابين فلسطينيين أول من أمس الأربعاء، تفصل بينهما الجغرافيا، لكن لا تفصل بينهما هويتهما العربية الفلسطينية، برصاص الجيش الإسرائيلي، في حالة الفتى الشهيد زيد القبيسة من منطقة الخليل، والشهيد مصطفى يونس في عارة الذي قتل برصاص أمن مستشفى إسرائيلي، خير دليل على طبيعة النظرة الصهيونية للفلسطيني أينما كان، سواء حمل "المواطنة الإسرائيلية" ورفض استفزازه لمجرد أنه عربي، أو كان فلسطينياً من محافظة الخليل قاوم الاحتلال وقُتل حتى من دون ذنب ارتكبه، وهو دليل على حقيقة ما يواجهه الشعب الفلسطيني من حرب على مجرد وجوده إذا رفض أن يكون "عربياً مطيعاً".

لكن أخطر ما يراه الفلسطيني في الذكرى الـ72 للنكبة، فصول النكبة المقبلة، منذ بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل عامين بوضع اللمسات الأخيرة على خطة تصفية فلسطين وقضيتها تحت مسمى "صفقة القرن" (خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية) ورؤية ترامب، فيما تكرر السلطة الفلسطينية التهديدات نفسها التي بات حتى الإسرائيليون لا يأبهون لها، بوقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، وهو التنسيق الذي يتيح لقوات الاحتلال وعناصره الخاصة انتهاك "البونتستانات" المصنفة "أ" في الضفة الغربية المحتلة، لاعتقال المطاردين والمطلوبين للاحتلال، سواء كانوا أعضاءً في المجلس التشريعي الفلسطيني، مثل خالدة جرار، أو مجرد شباب انخرطوا في تنظيمات المقاومة المختلفة، عناصر في "الجبهة الشعبية" وحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وغيرها ويرفضون واقع الاحتلال.


في ملف حكومة الاحتلال، لا يمكن التغاضي عن رمزية قدرة دولة الاحتلال على تخطي أزمتها السياسية الداخلية بعد عام ونصف عام، فيما يستمر الانقسام الفلسطيني منذ 14 عاماً على شبه سلطة وعلى مخصصات وامتيازات سلطوية لفصائل ثورة لن تجد إذا أصرّت على تقديم مصالحها وتثبيت سلطتها، كل في بقعتها، ما يمكن أن تحكمه لاحقاً، أو شعباً تمثل قضيته الأولى التحرر من الاحتلال وإقامة دولة مستقلة، وإعادة اللاجئين، وتصير في نهاية المطاف إلى تشكيلات شبه دويلات وسلطات تتحكم بها دولة الاحتلال، تساعدها في ضبط حركتها الأنظمة العربية المجاورة.

عام ونصف عام من الأزمة السياسية، ولم توقف رهانات السلطة الأعلى في فلسطين، السلطة الفلسطينية على تغيير يأتي به جنرال فاخر في دعايته بعدد من قتلهم من أبناء فلسطين في العدوان على غزة عام 2014. أوهام غذّتها للأسف أيضاً أحزاب عربية في الداخل الفلسطيني، ظنت أنها ستكون صاحبة فضل في "اختراق الشارع الإسرائيلي" والمجتمع الإسرائيلي وجرّه بالشعارات الحالمة نحو الانقلاب على ذاته وأيديولوجيته الاستيطانية، سواء كان استيطاناً زراعياً عمالياً، أو يميناً أيديولوجياً مطعّماً بوعود الرب ورؤيا "أنبياء إسرائيل".

صحيح أن حكومة نتنياهو في الخطوط العريضة المعلنة، أسقطت عبارة الضم ونيات الضم، لكن ذلك لا يعني أن حلم الضم وخياراته، على الرغم مما قد تكون تكاليفه باهظة، سيزول من المشهد الاحتلالي الإسرائيلي. ففي أوج الأزمة السياسية وقبيل الانتخابات الثانية (17 سبتمبر/أيلول الماضي)، أعلن نتنياهو في جلسة لكتلة حزبه في الكنيست "أنه سلّم شخصياً بأن التسوية التاريخية هي بإقامة الأردن في شرقي أرض إسرائيل". وقد أقرّ الاتفاق الائتلافي بحق رئيس الحكومة في مباشرة إجراءات الضم وتقديم قانون بهذا الخصوص بدءاً من مطلع يوليو/ تموز المقبل، ومع أن التوقيت قد يتغير، إلا أنه لا يعني بالضرورة ألا يتم، أو ألا "يُقلص" نطاق الضم ومساحة الأرض كي يتم تسويق ذلك تنازلاً إسرائيلياً مؤلماً، على الفلسطينيين أن يشكروه عليه. لم تعد هناك حاجة لتكرار تبعات قانون القومية اليهودي، فقد صارت ملموسة على الأرض، على كل المستويات والأصعدة، في توسيع الاستيطان وفي منع إقامة دولة غير يهودية ذات سيادة على أي شبر من "أرض إسرائيل".

النكبة الأكبر التي تحملها هذه الأيام في الذكرى الـ72 لنكبة فلسطين، هي غياب الإرادة السياسية الفلسطينية، لمواجهة التوحش الإسرائيلي، والتعلق بأوهام الضغط الخارجي، من دون أن يكون للشعب الفلسطيني خيار آخر غير "استجداء السلام"، بعد أن كان يقاتل من أجل الحرية والاستقلال. غياب الإرادة الفلسطيني الموحّدة هو الذي مكّن بعض أنظمة العرب، بدءاً من دول الطوق التي تحولت اثنتان منها إلى "دول جيرة حسنة"، وحتى دول في الخليج، وفي أفريقيا، إلى الانتقال من التضامن مع فلسطين إلى التحالف مع إسرائيل، والتنكر لتضحيات شعوبها من أجل فلسطين. هو السبب نفسه الذي يضعف موقف من بقي مناصراً لقضية فلسطين وشعبها.

لن تكون طريق التحرر والعودة سهلة في ظل كل هذه المعطيات، لكنها أيضاً ليست سهلة، بل وعرة ومليئة بالعراقيل والمطبات التي سيكون على الشعب الفلسطيني كله تجاوزها، وهو ما لا يمكن من دون أن يبدأ بتفكيك الطبقات السياسية القائمة، وتوجيه كل طاقاته الداخلية أولاً لتوحيد صفوفه، وإعادة تصحيح البوصلة نحو الحرية والعودة والاستقلال.