تواطؤ ترامب ونتنياهو: إلى أين تتجه "العلاقات المميزة" الأميركية-الإسرائيلية

19 اغسطس 2019
عندما وصل ترامب للحكم أصبح حليفاً تلقائياً لنتنياهو(جابين بوتسفورد/Getty)
+ الخط -
هناك دينامية جديدة في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية بدأت خلال العقد الأخير وتعمّقت مع الوقت، ومع كل تطور سياسي تكون له ارتدادات في واشنطن وتل أبيب. لكنّ التواطؤ الضمني بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال العامين الأخيرين، سرّع من طيّ صفحة ما كان يسمّى بـ"العلاقات المميزة" بين الولايات المتحدة وإسرائيل. والضجة التي أثيرت حول منع النائبتين الأميركيتين الفلسطينية رشيدة طليب والصومالية إلهان عمر من دخول فلسطين المحتلة، تصبّ في هذا السياق، وتحاكي رمزيتها هذا المزاج الأميركي الجديد حيال إسرائيل.

كان هناك تواصل خلال الأسابيع الأخيرة بين السفارة الإسرائيلية في واشنطن ولجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية (أيباك) وأقرب حلفاء إسرائيل في الكونغرس النائب ستيني هوير، لتمرير مسألة تأشيرة دخول طليب وعمر بسلاسة وبعيداً عن الإعلام، وكانت الأمور كلها تسير بشكل إيجابي، حتى دخل ترامب على الخط في تغريدة دفعت نتنياهو إلى إعطاء أوامره بإلغاء هذه التأشيرات، ما أشعل أزمة كان يمكن بكل بساطة تفاديها. ودعا ترامب في تغريدته إلى منع إتمام زيارة طليب وعمر.

بهذه المناورة، حقّق ترامب ثلاثة مكاسب سياسية: أولاً، أجبر مرّة أخرى قيادة الحزب الديمقراطي على احتضان ما يمثّله كلٌّ من طليب وعمر، أي الأصول المسلمة المهاجرة والمنتقدة لإسرائيل، وذلك تمهيداً لاستغلال هذا الأمر في الانتخابات العامة لتصوير الحزب الديمقراطي أنه يدعم المهاجرين ويؤيّد الأفكار "الاشتراكية". ويأتي ذلك ضمن حملة ترامب المبرمجة ضدّ هذه المجموعة من الجيل الجديد من القياديّات في الحزب الديمقراطي، اللواتي يسمّين أنفسهن "الزمرة". ثانياً، تمكّن ترامب من تأزيم العلاقة بين إسرائيل والحزب الديمقراطي وتصوير الحزب الجمهوري على أنه الداعم الرئيس لإسرائيل. ثالثاً، عزز الرئيس الأميركي قوة التيار اليساري في الحزب الديمقراطي على حساب التيار الوسطي والقيادة التقليدية، لا سيما في ما يتعلق بالنظرة إلى إسرائيل، وهذا يأتي أيضاً ضمن حساباته الانتخابية.

أبعد من المكاسب السياسية، هناك اتجاهات تتجذر في الحياة السياسية الأميركية وتترك آثارها عليها نتيجة هذا التواطؤ بين ترامب ونتنياهو، لا سيما تعزيز الانقسامات في الحاضنة الاجتماعية للعلاقات الأميركية-الإسرائيلية، والتأثير السلبي على الإجماع الحزبي في واشنطن حول دعم إسرائيل.

ويواصل ترامب تكريس تحالفه مع القاعدة الإنجيلية الموالية لإسرائيل. وخلال انعقاد المؤتمر السنوي لـ"مسيحيون متحدون لأجل إسرائيل" في واشنطن الشهر الماضي، حرص الرئيس الأميركي على إرسال نائبه مايك بنس، ووزير خارجيته مايك بومبيو ومستشاره للأمن القومي جون بولتون، والسفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، لإلقاء خطابات في المؤتمر. حضور كل هؤلاء المسؤولين على هذا المستوى في أي إدارة أميركية، أمر نادر في مثل هذه المؤتمرات. و"الهدايا" التي قدمها ترامب لنتنياهو خلال العامين الماضيين كان حافزها المحلي هذه القاعدة الإنجيلية البيضاء (صوّت 81 في المائة منها لترامب عام 2016)، لا سيما نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والإقرار بسيادة إسرائيل على الجولان، ووقف تمويل المنظمات الدولية المعنية بملف اللاجئين الفلسطينيين. وقد لفت استطلاع لمعهد "بروكينغز" العام الماضي إلى أن 53 في المائة من الإنجيليين الأميركيين يؤيدون قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس مقابل اعتراض 40 في المائة منهم على ذلك، وهو مؤشر على كيفية تعزيز أداء ترامب الانقسام حول العلاقة مع إسرائيل بين القاعدة الإنجيلية الأوسع.

الحاضنة الاجتماعية الأخرى التي يؤثّر عليها تواطؤ ترامب-نتنياهو هي اليهود الأميركيون. فحظر سفر طليب وعمر إلى إسرائيل يؤدي إلى نفور اليهود الأميركيين الليبراليين من هذا التواطؤ، كما يعتقد هؤلاء أنه يؤثّر سلباً على العلاقات بين اليهود والمسلمين في الولايات المتحدة. لكن في المقابل، هناك أيضاً يهود أميركيون يعتقدون أنّ ترامب بهجومه على طليب وعمر ينتقد معاداة السامية ويدافع عن إسرائيل. وبحسب مؤسسة "غالوب"، فإنّ 16 في المائة من اليهود الأميركيين ينتمون إلى الحزب الجمهوري مقابل 52 في المائة إلى الحزب الديمقراطي و31 في المائة من المستقلين. وفي استطلاع نشره مركز "بيو" للأبحاث في شهر مايو/أيار الماضي، قال 42 في المائة من اليهود الأميركيين إنّ ترامب يدعم إسرائيل أكثر مما يلزم، فيما رأى 47 في المائة أنّ لديه سياسة متوازنة حيال إسرائيل. وتعمّق الأزمة الأخيرة حول منع سفر طليب وعمر هذه الانقسامات بين اليهود الأميركيين، فيما السؤال المطروح اليوم أمامهم هو: هل يبتعد الحزب الديمقراطي عن إسرائيل، أم ترامب ذهب بعيداً في دعمه لها؟

الأمر الثاني الذي يؤثّر عليه تواطؤ ترامب-نتنياهو إلى جانب مسألة الحاضنة الاجتماعية، هو نهاية الإجماع الحزبي الأميركي حيال إسرائيل عبر جعلها مادة خلافية في واشنطن. ستيني هوير، الذي يتولى منذ سنوات ضمان وتعداد تصويت النواب الديمقراطيين، كان يتباهى دائماً بأنّه ليست لدى حزبه "مشكلة إسرائيل"، وجد نفسه في أزمة هو و"أيباك" بعد فشل ما أرادوه لجهة تنظيم زيارة ناجحة لـ41 نائباً ديمقراطياً جديداً إلى إسرائيل هذا الصيف. حتى "أيباك" تحفّظت على قرار نتنياهو حظر سفر نائبتين في الكونغرس لأنها تخشى منذ سنوات التراجع في حماسة الحزب الديمقراطي في تأييد إسرائيل، وهي تعيد حساباتها في هذا السياق بعدما خسرت من رصيدها عندما انجرت مع نتنياهو في معاركه ضدّ الرئيس السابق باراك أوباما.

وعادةً، كان يظهر هوير، إلى جانب نظيره الجمهوري كيفن مكارثي في مؤتمرات "أيباك" السنوية، تعبيراً عن وحدة الحزبين في ما يتعلق بإسرائيل، لكن خلال مشاركتهما في مؤتمر اللجنة عام 2016، كان الحوار متوتراً بينهما حول ما إذا كان التعاون وثيقاً بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، وهما لم يظهرا معاً خلال مؤتمر "أيباك" هذا العام. كما وصف المرشّح الرئاسي اليساري، السيناتور بيرني ساندرز، تدخل نتنياهو لمنع زيارة طليب وعمر بأنه "لحظة فارقة بشأن كيفية انخراط الديمقراطيين مع جنوح إسرائيل المتزايد نحو اليمين المتطرف في ظلّ حكومة نتنياهو. الرأي العام داخل الحزب الديمقراطي يتجه بشكل متزايد ضدّ الحكومة الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة".

نتنياهو، الذي عارض كل الرؤساء الأميركيين خلال توليه رئاسة الوزراء (بيل كلينتون وباراك أوباما)، سمته صحيفة "بوليتيكو" الأميركية بأنه "جمهوري إسرائيلي". فهو بادر إلى التدخل في الحياة السياسية الأميركية عندما عارض بشدة الاتفاق النووي مع إيران، وتجاهل رئاسة أوباما حينها عندما خاطب الكونغرس بدون إذن البيت الأبيض، كما استخدم مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل كي يقنع الكونغرس بعرقلة الاتفاق النووي الإيراني. في المقابل، كان هناك أيضاً تحول في عهد أوباما مع بروز مجموعات ضغط يهودية أميركية في واشنطن للمرة الأولى، لا سيما منظمة "جاي ستريت"، التي ولدت في مرحلة الرئيس السابق وواجهت "أيباك" بدعم مرشحين للكونغرس يؤيدون سياسات أميركية متوازنة حيال إسرائيل، وكانت تحصل على دعم معنوي من البيت الأبيض. لكن عندما وصل ترامب إلى الحكم، ذهب في اتجاه معاكس لأوباما وأصبح حليفاً تلقائياً لنتنياهو.

وعنونت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً لها أخيراً، جاء تعليقاً على منع طليب وعمر من دخول إسرائيل "الملك بيبي (نتنياهو) ينحني أمام تغريدة". فأكثر ما انتقده الإعلام الأميركي والأقلام الليبرالية اليهودية الأميركية هو ما اعتبرته خضوع رئيس الوزراء الإسرائيلي لرغبات الرئيس الأميركي. الانتقاد الذي جلبه نتنياهو لإسرائيل في الإعلام الأميركي غير مسبوق ويجب أن يثير القلق فيها، لكن هذا القرار يتماشى مع تحالف نتنياهو مع اليهود المتدينين في إسرائيل ومع نشر صور له مع ترامب خلال حملاته الانتخابية، نظراً لشعبية ترامب المرتفعة بين الإسرائيليين.

الخلاف الديمقراطي في الكونغرس مع إسرائيل يتضمن تأييد الليبراليين لحلّ الدولتين، ورفضهم توسّع الاستيطان الإسرائيلي، وهي المواقف نفسها التي أدّت سابقاً إلى التوتر بين أوباما ونتنياهو. التحدّي المقبل لاستشراف ما إذا كان هناك أي تأثير لحظر سفر طليب وعمر على علاقة الحزب الديمقراطي مع إسرائيل، سيكون بعد عطلة الكونغرس الصيفية الشهر المقبل. ويسعى الديمقراطيون إلى مشروع قانون رمزي يؤيد حلّ الدولتين للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وقد حصل على تأييد نواب جمهوريين على الرغم من تحفظات ترامب عليه. هناك صيغة ديمقراطية لمشروع القانون تقول إن حلّ الدولتين هو "الطريق الوحيد لبقاء إسرائيل، وتحقيق مطالب الفلسطينيين المشروعة"، مقابل صيغة جمهورية أكثر مرونة تقول إنّ حلّ الدولتين "يمكنه تحقيق" هذه الأهداف ذاتها. وسيكون لافتاً كيف سيقارب الديمقراطيون هذا الأمر بعد أسابيع.

وبالرغم من أنّ الانتقادات بين الديمقراطيين في الكونغرس لقرار نتنياهو كانت واسعة النطاق، إلا أنّ هذا لا يعني تراجع الدعم لإسرائيل في أوساط الحزب الديمقراطي. لكن بدون جهود من حكومة نتنياهو لاحتواء تداعيات منع سفر طليب وعمر، يبقى المناخ الليبرالي غير مؤاتٍ لرئيس الوزراء الإسرائيلي. فهذا سيؤثر سلباً على المدى البعيد، في ظلّ التحولات الديمغرافية في الحزب الديمقراطي، ودخول أجيال جديدة إلى الحزب من أصول مهاجرة لديها تساؤلات حول استمرار الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل من دون أي شيء في المقابل، ما قد ينعكس على المدى البعيد تعطيلاً ممكناً في الكونغرس للمساعدات الأميركية لإسرائيل وربطها بشروط مثل وقف الاستيطان وإجراء تعديلات في السياسات الإسرائيلية حيال الفلسطينيين.

وليست واضحة إمكانية إنقاذ ما تبقى من مصداقية "العلاقات المميزة" الأميركية-الإسرائيلية في واشنطن، وأي رئيس أميركي بعد ترامب قد يواجه تساؤلات صعبة في هذه المسألة، لكن تواطؤ ترامب-ونتنياهو يبدو غير معني بكل هذه التداعيات، ولسان حاله يقول: "لا يهم طالما نحن السلطة، وليكن الطوفان السياسي بعدنا".

المساهمون