رابع هيكلة للجيش التركي بـ700 عام: مخاوف التسييس المفرط

05 اغسطس 2016
محاولة لوضع الجيش تحت نفوذ السلطة المدنية(بينور إيجي غورن/الأناضول)
+ الخط -
تشهد المؤسسة العسكرية التركية، منذ اندلاع المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف شهر يوليو/تموز الماضي، موجة واسعة من الإصلاحات الهيكلية، وذلك في محاولة هي الكبرى من نوعها، من قِبل الطبقة السياسية التركية (حكومة ومعارضة)، لوضع المؤسسة العسكرية تحت نفوذ السلطة المدنية المنتخبة، فيما هي رابع أكبر موجة إصلاحات تتعرض لها هذه المؤسسة منذ أكثر من سبعة قرون. وشهدت المؤسسة العسكرية التركية في تاريخها ثلاثة إصلاحات بهذا الحجم، أولها بدأ نهاية القرن الرابع عشر في عهد السلطان العثماني غازي الأول، بإنشاء فرقة الإنكشارية التي قامت بدور حاسم في مد نفوذ السلطنة سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط، قبل أن تتحوّل إلى عبء ما دفع السلطان محمود الثاني عام 1826 للبدء بموجة إصلاحات واسعة أخرى، أدت إلى حل الإنكشارية، وهدفت لإنشاء جيش عثماني متقدّم على طريقة القوى الأوروبية المنافسة. لتكون آخر هذه الموجات الكبيرة من الإصلاحات، عام 1926، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك بعد تأسيس الجمهورية التركية، على أنقاض السلطنة العثمانية إثر هزيمة الحرب العالمية الأولى.
وبدا أن الطبقة السياسية التركية استغلت فشل المحاولة الانقلابية، كي تحقق أحلامها التاريخية بالسيطرة على المؤسسة العسكرية، واجتثاث بقايا النزعة السياسية الانقلابية، إذ يمكن تقسيم الإجراءات الحكومية التي صدرت في مراسم تشريعية بموجب حالة الطوارئ التي تم الإعلان عنها لمدة ثلاثة أشهر في عموم البلاد، إلى قسمين، ما هو متعلق بمحاسبة الانقلابيين، وما هو أبعد نحو نزع أنياب الجيش وتحويله إلى مؤسسة كباقي مؤسسات الدولة، وذلك وسط انتقادات خافتة، سواء من قبل الضباط المتقاعدين أو من قبل بعض الخبراء الأمنيين.

وفي إطار محاسبة المجموعة الانقلابية، قامت وزارة الدفاع التركية بتسريح أكثر من ثلاثة آلاف عسكري من مختلف الرتب، سواء من المتهمين بالتبعية لحركة "الخدمة" بزعامة فتح الله غولن المتهم الأول بإدارة المحاولة الانقلابية، أو من الضباط الانتهازيين الذين تعاونوا معها أو ممن لم يحركوا ساكناً لمقاومتها. وتمت عملية التسريح على دفعتين، الأولى في 28 يوليو/تموز بتسريح 1648 عسكرياً، والثانية في 31 يوليو بتسريح 1389 آخرين. وكان الجنرالات الأكثر تأثراً بحملات التطهير هذه، إذ تم تسريح ما يقارب 150 ضابطاً من أصل 325 جنرالاً في عموم الجيش التركي، أي ما تشكل نسبته حوالى 45.8 في المائة من نسبة الجنرالات.

تلا ذلك قائمة من المراسيم التشريعية التي أعادت هيكلة الجيش بشكل كامل، ووضعته تحت سيطرة الحكومة، فتم ربط قيادات القوات الجوية والبرية والبحرية بشكل مباشر برئاسة الوزراء بعد أن كانت تابعة لقيادة الأركان. كما سمحت التعديلات لرئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية بمنح تعليمات مباشرة لأي ضابط في الجيش من دون المرور بالتراتبية العسكرية عبر هيئة الأركان، وكذلك تم استكمال ربط قوات الدرك وحرس السواحل بشكل كامل بوزارة الداخلية، وبالتالي تم سحب الملف الأمني الداخلي وحماية الحدود من يد الجيش لصالح الحكومة. وأكثر من هذا، تم إغلاق كل الكليات والثانويات الحربية، والإعلان عن تشكيل جامعة الدفاع القومي التي ستكون مرتبطة بوزارة الدفاع، وتم لأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية السماح لخريجي مختلف الثانويات التركية بما فيها ثانويات الإمام الخطيب (الثانويات الشرعية) التقدّم للكليات العسكرية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد جرى تخفيف سيطرة المؤسسة العسكرية على أمر الترفيعات والتسريحات في صفوف القوات المسلحة، الذي كان يشرف عليه مجلس الشورى العسكري وينعقد مرة كل عام برئاسة رئيس الوزراء، فتمت توسعته لجهة رفع تواجد المدنيين، وضم وزراء الداخلية والدفاع والخارجية والعدل إلى عضوية المجلس. كما تم إلحاق المستشفيات العسكرية بسلطة وزارة الصحة، ونقل الثكنات العسكرية المتواجدة في العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول إلى خارج المدن. 

تطرح التعديلات الكبيرة التي تعرض لها الجيش التركي أخيراً، الكثير من الأسئلة، خصوصاً أنها تمت بالتعاون بين مجموعتين أساسيتين، النخبة الكمالية العسكرية التي تم التخلص منها بعد أن شنّت حركة "الخدمة" أثناء تحالفها مع "العدالة والتنمية" حملة واسعة ضدها برفع دعاوى عدة بحقها، كدعوى "المطرقة والأرغنكون" وغيرها، أما الفئة الثانية فهي حزب "العدالة والتنمية" بما يمثّله من ائتلاف اليمين القومي والإسلامي التركي. وتجتمع الفئتان على مشترك واحد في الرؤية الاستراتيجية، كلٌّ لأسبابه، وهو كونهما "ضد الولايات المتحدة وضد حلف شمال الأطلسي". وتميل هاتان الفئتان لرؤية تركيا على أنها قوة مستقلة وأورو-آسيوية أكثر منها قوة غربية أو أطلسية، وذلك على حساب الضباط المستبعدين الذين كانوا أكثر ميلاً لحلف الأطلسي والعلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا السياق، تبدو المواقف الأوروبية والأميركية مبررة في مخاوفها من التعديلات التركية الأخيرة، التي انعكست ببروباغندا إعلامية كبيرة شنّتها وسائل إعلام غربية ضد الإصلاحات، وربطتها بمخاوف من "تعزيز سلطة الديكتاتور أردوغان"، على الرغم من أنها تمت بما يمكن وصفه إجماعاً داخلياً تركياً واسع النطاق.

وعلى الرغم من أن توجّهات هاتين الفئتين من شأنها أن تعزز من السياسات الخارجية التركية، لكنها وبحسب الخبير الأمني التركي متين غورجان، تحمل في طياتها توتراً، بسبب اختلاف موقف الطرفين من العلمانية. ويقول غورجان، في سلسلة تصريحات ومقالات صحافية، إن "هاتين المجموعتين غير قادرتين على الاتفاق على موقف الجيش من العلمانية، فبينما يفضّل ضباط الأرغنكون والمطرقة العودة بالمؤسسة العسكرية إلى "إعدادات ضبط المصنع"، أي إلى الموقف الكمالي العلماني القاسي، فإن الاتجاه السائد في صفوف العدالة والتنمية هو زيادة الاعتماد على الكوادر ذات التوجهات الدينية، لتقويض التوجهات الانقلابية". وبحسب غورجان، يرى معسكر "الأرغنكون والمطرقة" أن الخطر الأكبر هو في أسلمة الجيش، بينما يفضّل "العدالة والتنمية" أسلمة الجيش لقطع الطريق أمام أي محاولة انقلابية، وذلك على الرغم من التغيير الكبير الذي شهدته العقيدة العسكرية للجيش أخيراً، وبدت أكثر وضوحاً خلال العمليات التي تم شنّها ضد حزب "العمال الكردستاني" في جنوب وشرق البلاد، لجهة إفساح المجال بشكل أكبر للشعارات الدينية، وتحوّل حمزة بن عبد المطلب، غير المرتبط بالشقاق السني-الشيعي، إلى رمز مهم في صفوف الجنود، وكذلك باستعادة بعض التقاليد العثمانية كوضع المصاحف على سواري السفن.


واعتمدت الإجراءات الأخيرة في إعادة هيكلة الجيش على مبدأ "قسّم السلطة ووزّعها وولّد المنافسة، وأدر"، مستهدفة إعادة ترتيب العلاقة بين العسكريين والمدنيين، لصالح زيادة نفوذ الأخيرين، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال ربط قيادات القوات الجوية والبرية والبحرية بشكل مباشر برئاسة الوزراء، بعد أن كانت هذه القيادات تابعة لقيادة الأركان، والسماح لرئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية بمنح تعليمات مباشرة لأي ضابط في الجيش من دون المرور بالتراتبية العسكرية عبر هيئة الأركان. وكذلك تم استكمال ربط قوات الدرك وحرس السواحل بشكل كامل بوزارة الداخلية، ما دفع قائد هيئة الأركان السابق إلكر باشبوغ، المحسوب على التيار الكمالي، للتحذير من ذلك، على الرغم من دعمه بعض الإجراءات الخاصة بتوسيع سلطة وزارة الدفاع، قائلاً إن "القرارات التي تم اتخاذها في إطار حالة الطوارئ من شأنها أن تخرب بنية القوات المسلحة"، مضيفاً: "لا أرى أي حاجة لإعادة هيكلة الجيش بالطريقة التي تمت، وتم تبرير ذلك بالحديث عن عدم وجود رقابة مدنية على الجيش، الأمر الذي لا يُعبّر عن الحقيقة، لأن قيادة الأركان مسؤولة أمام رئيس الوزراء الذي يحق له توجيه الأوامر وعلى الأخيرة تنفيذها". وتابع باشبوغ: "على عكس الشائع، كل شيء متعلق برئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، ولا يمر أي شيء متعلق بالقوات المسلحة من دون موافقة الرئيس أو رئيس الوزراء، بدءاً من وثيقة الأمن القومي، مروراً بالخطط الاستراتيجية العسكرية، وانتهاءً بالترفيعات والتعيينات في صفوف الجيش، من أصغر ضابط إلى قائد هيئة الأركان، كما لا يوجد أي شيء في مالية الجيش دون رقابة الحكومة".

ورأى باشبوغ أن ربط القوات البرية والبحرية والجوية بوزير الدفاع أمر يؤذي الجيش ويشتته على مستوى القيادة، معتبراً أن هذه الإجراءات تتعارض مع القوانين الموجودة، التي تؤكد أن قائد هيئة الأركان هو قائد للقوات المسلحة، ولكن القرار الجديد يربط قيادات هذه القوات بوزير الدفاع، مشيراً إلى أن هذا الأمر يطرح سؤالاً: "أمام من سيكون قادة هذه القوات مسؤولين، أمام وزير الدفاع أم رئيس هيئة الأركان؟ مضيفاً أن "هذا الإجراء لم يمنع انقلاب 1960 عندما كانت قيادة هيئة الأركان برمتها تابعة لوزير الدفاع". واعتبر باشبوغ أن بعض القرارات تم اتخاذها بناءً على ردود فعل، مثل القرار الذي تم إصداره ويسمح لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، عند الحاجة، بأخذ المعلومات بشكل مباشر، وتوجيه الأوامر مباشرة إلى قيادات القوات وأي من مرؤوسيهم من الضباط من دون الحاجة إلى المرور بالتراتبية العسكرية، قائلاً: "أفهم سبب اتخاذ هذا القرار، بعد أن تحدث رئيس الوزراء في ليلة الانقلاب مع أحد قيادات القاعدة الجوية في إسكيشهير، وطلب منه ضرب قاعدة أكنجي التي كانت معقل الانقلابيين، ليطلب منه الضابط أمراً مكتوباً... ولكن هذا يدمر التراتبية والالتزام العسكري الذي يُعتبر من أهم ميزات الجيش سواء في الحرب أو في السلم، ولنفترض جاء رئيس وزراء أو رئيس جمهورية آخر من حزبين مختلفين، غداً، وأمر بتوجيه ضربة عسكرية ضد أي أحد في الدولة، هل ستستطيع منع ذلك"؟



الإصلاحات الأخيرة أدت إلى زيادة سيطرة المدنيين على كل مجلس الشورى العسكري، ما دفع مراقبين للتحذير من أن الإفراط في ما يمكن الإطلاق عليه "تمدين الجيش" أو تعزيز سلطة الساسة على الجيش قد يؤدي إلى نتائج عكسية "بتسييس الجيش"، الأمر الذي سيجعل كل هذه الإصلاحات بلا جدوى على المدى البعيد، بل قد يؤدي إلى تمزيق المؤسسة العسكرية بين الولاءات السياسية، خصوصاً إذا أصبحت الحكومة في تركيا ائتلافية.

وفي هذا السياق، يقول غورجان إن "زيادة السيطرة المدنية على الجيش، يعني أننا قد نشهد في وقت ما وقوف سيارات ضباط الجيش أمام مكاتب النواب في البرلمان من أجل الترفيعات، وبالتالي يعني تسييس القوات المسلحة". كذلك يعترض العديد من ضباط الجيش على جعل المستشفيات العسكرية تابعة لوزارة الصحة، وربط الكليات العسكرية بوزارة الدفاع بدل ربطها بقيادات القوات، وقال باشبوغ معلّقاً على هذا الأمر: "في كل جيش ترتبط الكلية الجوية بقيادة القوات الجوية، وكلية المدفعية بقيادة القوات البرية وهكذا، لأن قيادات هذه القوات هي الأدرى باحتياجات الجيش من التدريب والتعليم، فكيف يتم إغلاق كليات عسكرية يتجاوز عمرها 170 عاماً، (السلطان) عبد الحميد لم يفكر في فعلها رغم أنه تعرض لانقلاب"، مضيفاً:" في كل جيوش العالم، توجد مستشفيات عسكرية خاصة بالجيش، يقولون بأن تحويلها لإدارة وزارة الصحة لتطهيرها من حركة الخدمة، إن وزارة الصحة بحد ذاتها كانت مخترقة من حركة الخدمة".