الانسحاب من سورية يخلط الأوراق: سباق على التركة الأميركية

21 ديسمبر 2018
خالف ترامب كل توصيات مسؤولي إدارته بعدم الانسحاب (Getty)
+ الخط -
يفتح قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قوات بلاده من سورية، الذي أعلنه أول من أمس الأربعاء ودافع عنه أمس الخميس، عبر التأكيد أن الولايات المتحدة "لا تريد أن تكون شرطي الشرق الأوسط" وأنه "حان الوقت أخيراً لكي يقاتل الآخرون"، الباب أمام تحولات واسعة في المشهد السوري، عنوانها الأبرز من سيملأ الفراغ الأميركي وسط مؤشرات إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد سباقاً بين أبرز الأطراف المحلية والإقليمية والدولية الفاعلة في المشهد السوري للهيمنة على أكبر قدر من التركة الأميركية
فقرار الانسحاب، الذي يعد بداية مرحلة جديدة للسياسة الأميركية في المنطقة، لم يشكل مفاجأة فقط لجميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، بل حتى لمسؤولي الإدارة الأميركية نفسها الذين عبّر كثير منهم، بمن فيهم أعضاء في الكونغرس، عن دهشتهم من هذا القرار الذي شبّهوه بقرار الرئيس السابق باراك أوباما الانسحاب من العراق نهاية العام 2011، والذي ترك الساحة العراقية مفتوحة أمام صعود تنظيم "داعش" وسيطرته على أجزاء واسعة من العراق.

وعكست المواقف الصادرة عن مختلف الأطراف المعنية بالصراع السوري، أمس الخميس، تباين النظرة للقرار الأميركي، كلٌ حسب مصالحه ومخاوفه من انعكاس ذلك على الأرض وعلى مستقبل الصراع في سورية والحلول المرتقبة. فقد تصاعدت التحذيرات من عواقب الانسحاب الأميركي من الجهات المتضررة منه، لا سيما الأكراد والدول الأوروبية الحليفة لواشنطن وسط تنبيه من مخاطر "انتعاش" تنظيم داعش. على المقلب الآخر، كانت روسيا أبرز المرحبين بالخطوة الأميركية، نظراً لإدراكها أنها تفسح المجال أمامها للتمدد أكثر في الجغرافية السورية والسعي مع إيران لفرض رؤيتهما للحل السياسي خدمة لنظام بشار الأسد. بينما بدا أن الحذر يسيطر على تركيا، المتخوّفة من مطالبة أميركية لها بتأخير عمليتها شرق الفرات حتى الانسحاب الأميركي الكامل من سورية، فيما كانت إسرائيل عبر رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، تتوعد بمواصلة التحرك "بنشاط قوي ضد مساعي إيران لترسيخ وجودها في سورية"، مقرة بتداعيات خطيرة للقرار الأميركي ستمتد آثاره بالنسبة إليها لسنوات.

ووسط هذا الانقسام في تقييم التطور الأميركي، حاول ترامب أمس الدفاع مجدداً عن قراره قائلاً إن الولايات المتحدة "لا تريد أن تكون شرطي الشرق الأوسط". وقال ترامب في تغريدة "هل تريد الولايات المتحدة أن تكون شرطي الشرق الأوسط؟ وألا تحصل على شيء غير خسارة أرواح غالية وإنفاق آلاف تريليونات الدولارات لحماية أشخاص، لا يثمّنون في مطلق الأحوال تقريباً ما نقوم به؟ هل نريد أن نبقى هناك إلى الأبد؟ حان الوقت أخيراً لكي يقاتل الآخرون". وأضاف "روسيا وإيران وسورية والعديد غيرهم ليسوا مسرورين بخروج الولايات المتحدة على الرغم مما تقوله الأخبار الكاذبة، لأن عليهم الآن قتال تنظيم داعش وغيره ممن يكرهونهم، من دوننا". وتابع "أنا أبني أقوى جيش في العالم على الإطلاق. إذا قام تنظيم داعش بضربنا فيكون حكم على نفسه بالهلاك". وكان ترامب قال في تغريدات سابقة إن "الانسحاب من سورية ليس مفاجأة. أنا أقوم بحملة من أجل هذا الأمر منذ سنوات. وقبل ستة أشهر، عندما أردت أن أفعل ذلك علناً، وافقت على البقاء لمدة أطول".

وفيما لم يتم الإعلان رسمياً عن جدول الانسحاب، في ظل تسريبات عن أنه سيتم في فترة تتراوح بين 60 و100 يوم، لفت أمس ما نقلته وكالة "رويترز" عن مسؤولين أميركيين لم تكشف هويتهم، بأن أمر ترامب سحب القوات الأميركية يشير أيضاً إلى نهاية الحملة الجوية الأميركية على تنظيم "داعش".

وأشارت المعطيات إلى أن قرار ترامب تم من دون تنسيق مع المؤسسات العسكرية الأميركية والشركاء المحليين، أي "قوات سورية الديمقراطية"، ما جعل الساحة مفتوحة على سيل من التكهنات والتحليلات بشأن دوافع هذا القرار وتداعياته على الأطراف الضالعة في المشهد السوري، خصوصاً أن المنطقة التي تتواجد فيها القوات الأميركية هي المناطق التي تضم معظم ثروة سورية النفطية، وستكون موضع صراع بين كل القوى.
فالنظام السوري قد يرى في هذا الانسحاب فرصة لعقد صفقة يستعيد فيها تلك المنطقة من "قوات سورية الديمقراطية"، وفق شروطه، فيما ترى فيها فصائل المعارضة فرصة للسيطرة على مناطق شمال شرق سورية بدعم تركي. أما على صعيد القوى الإقليمية، فيشكل قرار الانسحاب فرصة لإيران لاستكمال مخططها بربط طهران ببيروت عبر سورية والعراق والذي كان يشكل الوجود الأميركي عائقاً أمامه.

ويحيل هذا القرار إلى إعادة قراءة الموقف الأميركي إزاء سورية منذ أعلن ترامب قبل أشهر عزمه على سحب القوات الأميركية من سورية، قبل أن يضغط بعض حلفائه ومستشاريه وإقناعه بعدم تحديد جدول زمني لذلك، لأن الحرب مع تنظيم "داعش" ما زالت مستمرة. تلا ذلك زيادة في الانخراط الأميركي في سورية، فجرى توسيع القواعد العسكرية الأميركية وزيادة عددها. كما زادت واشنطن من وتيرة تسليح وتدريب "قوات سورية الديمقراطية"، وأعلنت أنها تعمل على تشكيل قوات حدود إضافية يتراوح حجمها بين 35 و40 ألف عنصر من القوات المحلية، وعملت على إقناع دول خليجية حليفة بزيادة التمويل والمساهمة في عملية الاستقرار في المناطق المستعادة من تنظيم "داعش".

غير أن دلالات الانسحاب، كما يرى مراقبون، لا تتعلق بحجم القوات الأميركية في سورية، وهو غير كبير، لكن بالرسائل السياسية التي يحملها لحلفاء أميركا قبل خصومها، وفي مقدمتهم الأكراد الذين اعتبروا هذه الخطوة الأميركية "طعنة في الظهر"، فضلاً عن الدول الأخرى الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة.
وفي بيان لها أمس الخميس، قالت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، إن قرار انسحاب القوات الأميركية من شمالي شرقي سورية سيخلق فراغاً عسكرياً وسياسياً. وأضاف البيان: "نحتاج دعماً أكبر من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش بدلاً من الانسحاب"، مشيراً إلى أن المعركة ضد التنظيم لم تنته بعد. وحذرت هذه القوات من أن قرار سحب القوات الأميركية "سيؤثر سلباً على حملة مكافحة الإرهاب وسيعطي للإرهاب وداعميه ومؤيديه زخماً سياسياً وميدانياً وعسكرياً للانتعاش مجدداً والقيام بحملة إرهابية معاكسة في المنطقة". في المقابل، قالت المتحدثة باسم "قسد" جيهان أحمد "إننا لا نعتمد بالأساس على أي جهة وإنما على قدراتنا الذاتية". وأضافت في تصريح لوكالة "سبوتنيك" الروسية "سنواجه التهديدات التركية التي تحاول إطالة عمر تنظيم داعش في ريف دير الزور".

من جهته، قال عضو الهيئة السياسية في المجلس الوطني الكردي، فؤاد عليكو، لـ"العربي الجديد"، إن العلاقة القوية بين تركيا والولايات المتحدة، ورفض "قوات سورية الديمقراطية" المبادرات المطروحة، هو سبب إعلان ترامب سحب قوات بلاده من سورية. ورأى عليكو أن العلاقة بين واشنطن و"قسد" كانت "مؤقتة وعابرة، إلا أن الأخيرة لم تقدّر ذلك، على عكس العلاقة مع الحليف القوي والدائم تركيا". وأضاف أن رفض "قسد" للمقترح الأميركي بنشر قوات العشائر والبشمركة أدى أيضاً إلى جنوح واشنطن إلى الحليف التركي، لذلك جاء قرار سحب القوات من سورية. ورأى أن القرار الأميركي سيطبق، لكن تنفيذه سيبدأ من المناطق الحدودية أولاً لإفساح المجال لتركيا بتنفيذ عمل عسكري انطلاقاً من حدودها الجنوبية.


ولا يُعرف حتى الآن، وفق مسؤولين أميركيين كيفية التعامل مع الانسحاب من الناحية العملية، وهل سيقوم الجيش الأميركي باستعادة آلاف الأسلحة التي قام بتوزيعها على القوات الكردية وغير الكردية، وما إذا كان من الممكن سحب المعدات العسكرية الأميركية المنتشرة في الكثير من القواعد العسكرية في سورية أو يجب تدميرها في الموقع. وماذا يجب على الولايات المتحدة أن تفعل بالمقاتلين الأكراد والتحالف الدولي الذي يضم 79 دولة بهدف القضاء على "داعش".

أما "جيش مغاوير الثورة"، المحسوب على المعارضة والمدعوم أميركياً والموجود في منطقة التنف جنوب شرق سورية، فقد اعتبر قرار الانسحاب الأميركي سلبياً وسيئاً بالنسبة له، بحسب قائد اللواء العقيد مهند الطلاع، الذي أوضح في تصريح لـ"العربي الجديد" أن توقيت القرار غير صحيح. وأضاف: "نحن نعلم أن الوجود الأميركي لن يدوم، ولكن عملية الانسحاب قبل إتمام الحل السياسي في سورية ستؤدي إلى نتائج سلبية". أما المتحدث باسم "مغاوير الثورة" أحمد خضر المحيا، فأوضح لـ"العربي الجديد" أن الفصيل أُبلغ بالقرار، "ولكنه قرار اتُخذ من القيادة العليا في الولايات المتحدة وهو بحاجة إلى وقت لصدور إجراءات تنفيذية لتطبيقه حسب التسلسل القيادي". وأضاف أنه "حتى الآن لم يتم تطبيق شيء على أرض الواقع، ولا توجد معلومات حول متى وكيف سيتم الانسحاب، وحينها يمكن تحديد مدى تأثير هذا القرار".

القرار الأميركي لاقى أيضاً قلقاً في صفوف الدول الأوروبية الحليفة لواشنطن. فقد أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان "أننا نجري وشركاؤنا في التحالف الدولي محادثات مع واشنطن بشأن توقيت وكيفية تنفيذ قرار الانسحاب الأميركي". وأضافت "ستحرص فرنسا خلال الأسابيع المقبلة على ضمان أمن جميع شركاء الولايات المتحدة، بمن فيهم قوات سورية الديمقراطية. وعلى الولايات المتحدة أن تأخذ في الحسبان حماية السكان في شمال سورية واستقرار المنطقة لتجنب مأساة إنسانية جديدة وعودة الإرهابيين". كما أكدت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية ناتالي لوازو، أمس، أن "فرنسا "تبقى" ملتزمة عسكرياً في سورية". وفي لندن اعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن تنظيم "داعش" لم يُهزم بعد في سورية. وأضافت أن المملكة المتحدة ستبقى "منخرطة في التحالف الدولي وحملته لحرمان داعش من (السيطرة) على أراض وضمان هزيمته القاطعة". من جهتها، اعتبرت برلين أن القرار الأميركي يمكن أن يضر بالمعركة ضد تنظيم "داعش" و"يهدد النجاح الذي سُجّل حتى الآن"، بحسب وزير الخارجية الألماني هيكو ماس.

في مقابل خيبة أمل هذه الأطراف من خطوة واشنطن، بدا واضحاً أن الطرف المبتهج أكثر من غيره بالقرار الأميركي هو روسيا، وهو ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وصف القرار بـ"الصائب"، مشيراً إلى أن موسكو لم تر بعد ما يشير إلى بدء هذا الانسحاب. بوتين وخلال لقائه السنوي بالإعلام أمس الخميس، أضاف "بالنسبة للانتصار على تنظيم داعش بشكل عام أنا أتفق مع الرئيس الأميركي"، متابعاً "لقد سددنا ضربات قوية لتنظيم داعش في سورية". إلا أنه شكك في تصرفات واشنطن، وقال "لم نر أي مؤشرات على سحب القوات الأميركية بعد، ولكنني أقر بأن ذلك ممكن".

وتعليقاً على هذه التطورات، قال المحلل السياسي شادي عبدلله، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الانسحاب الأميركي سيترك الساحة عملياً لقوتين رئيسيتين، هما روسيا ومعسكرها، أي إيران والنظام من جهة، وتركيا من جهة أخرى. وأوضح أن لتركيا أهدافاً محددة تتعلق أساساً بانتشار المقاتلين الأكراد على حدودها، بينما تدعم روسيا النظام في السيطرة على كامل الأراضي السورية، في حين أن لإيران أهدافاً إضافية تتمثل في بناء قواعد وممرات استراتيجية تعزز نفوذها في سورية وإلى حدود المتوسط.

ورأى عبدلله أن "المشروع الإيراني في سورية تعرّض لانتكاسات في الأشهر الأخيرة بسبب الضربات الإسرائيلية المتوالية، وبسبب "حائط الصد" الذي شكّله الوجود العسكري الأميركي في شرقي سورية، ومع انزياح هذا الحائط لا شك أن إيران ستحاول التقدّم لملء الفراغ، ولتثبيت نفسها في تلك المنطقة بالتنسيق مع قوات النظام السوري من جهة، ومليشيا الحشد على الطرف العراقي من الحدود، من جهة أخرى". أما النظام السوري الذي لم يعلّق رسمياً حتى الآن على القرار الأميركي، فهو كما روسيا، لم ينفك يطالب في الفترات الماضية بانسحاب هذه القوات التي يعتبرها في خطاباته الرسمية كقوات احتلال.
ولفت عبدلله إلى أن النظام قد يحاول في المرحلة المقبلة، بدعم روسي-إيراني، التمدد انطلاقاً من المناطق التي يسيطر عليها باتجاه الجنوب إلى قاعدة التنف إذا ما انسحب الأميركيون منها، وباتجاه حقول النفط التي تسيطر عليها حالياً قوات "قسد"، وقد يكون ذلك بالاتفاق مع الأخيرة التي ستحاول أن تضع النظام في مواجهة الأتراك حتى لا تبقى هي وحدها في الواجهة.

وعلى الرغم من أن القوات الأميركية في سورية لم تكن مكلّفة بالدفاع عن المسؤولين الأميركيين أو منظمات المساعدات الإنسانية هناك، فقد كان وجودهم يعتبر ضمانة ضد الهجمات من مختلف الجهات. وقالت منظمة ميرسي كوربس، وهي منظمة مساعدات دولية تقدم مساعدات للمدنيين في شرق سورية، إنها قد تضطر إلى إعادة النظر في عملياتها هناك.

المساهمون