ما بين غربة السجن.. وسجن الغربة

23 مايو 2017
هل كان علي أن أنتظر داخل وطني؟ (Getty)
+ الخط -

أجلس في منفاي على كرسيِ بلاستيكي في شقة متواضعة خالية من الأشخاص خالية حتى من الأثاث، أشعر بشيء من الملل وبعض المرض من دون أن أجد من يمرضني.. والكثير من الحنين.

الحنين لدفء الاجتماعات العائلية حين كنا نجلس جميعًا برفقة الحديث والضحك؛ نشعر أن العالم كله يتمحور داخل هذه الغرفة التي جمعتنا معًا. أعترف أنني لم أكن أشعر بذلك بقوة حينها، لكنني اليوم أشعر بها.. كانت تشع بالدفء الذي تفتقده روحي الآن، الدفء الذي أفتقده في سجن الغربة.

وما قبل سجن الغربة، كانت غربة السجن. تلك الأيام والشهور العجاف التي قضيتها كمعتقل سياسي بالصدفة، لأجد نفسي فجأة أعيش مرارة وغربة السجن داخل الوطن، هذا الوطن الذي كان منذ عدة أعوام مسرحًا لحلم الثورة التي أقدمنا عليها أملًا في حرية الوطن المسلوب وكرامة أغلى لأبنائه، ذلك الحلم الذي انقلب إلى كابوس وأنا محتجز داخل غرفة صغيرة شبه مظلمة من دون أي منفذ لرؤية العالم الخارجي.

وعلى عكس ما يعتقده الكثير عن السجن بأنه انفرادي وتملأه الوحدة، كانت تلك الغرفة الصغيرة تكتظ بالمساجين حتى أنني نسيت أنه بإمكاني أن أنام على ظهري أو حتى أن أتقلب أثناء النوم من جانبي الأيمن إلى الأيسر من دون استئذان، أو أن تكون أبسط التفاصيل اليومية غير خاضعة لانتظار الدور من استخدام لدورة المياه للأكل للنوم، حتى الجلوس والوقوف أحيانًا كان يحكمهما الاستئذان، فلم تكن تلك الزنزانة الصغيرة المكتظة تتسع لجلوس الجميع في وقت واحد. تعرفت في هذه الغرفة إلى معنى القهر داخل الوطن.

الآن، وأنا أمشي وحيدًا، أعاني سجن الغربة في شوارع مدينة بالكاد أعرف فيها أحدًا. بيني وبين أهلي وأصدقائي مئات الأميال من السفر وتأشيرات الدخول والتصاريح الأمنية. أسأل نفسي.. هل كان علي أن أنتظر داخل وطني حتى لو كلفني ذلك الاحتمالية الدائمة أن أصبح سجينًا مرة أخرى؟ محرومًا من أبسط حقوقي وأرى أمي وأبي وزوجتي وأخوتي من خلف أسلاك حديدية ولدقائق معدودة كل أسبوع تحت رحمة السجان.

أم أن أمارس حريتي كاملة في غربتي، وروحي سجينة داخل وطني.. بين أهلي وأصدقائي .. أفتقدهم، وأجتر ذكراي معهم، وأعلم في داخلي أنني بعد مرور أكثر من عام ونصف على غربتي قد أصبحت بالنسبة لهم ذكرى، وأنا ما زلت على قيد الحياة.

ما أعانيه حقًا أنني حاولت عدة مرات أن أبني صداقات جديدة وعالمًا جديدًا لي في الغربة، لكنني كل مرة أكتشف أني فقدت هذه القدرة على التعارف وأنا على مشارف عقدي الرابع من العمر. لم تعد لدي طاقة أن أشرح ذاتي وحكاية تفاصيل عمري وحياتي من جديد، أصبحت لا أستطيع أن اتحمل فشل المحاولة نفسها، حتى وإن نجحت إحدى محاولاتي، أصبحت أخشى تكرار تجربة الفقد، فوجودي في هذا البلد الغريب وإن طال لعدة سنوات سيظل مؤقتًا وعابرًا أصبحت حياتي كلها عبارة عن أنقاض من ذكريات.

في إحدى حالات الحنين العاصفة تمكّن مني حنيني ورغبتي في العودة وليكلفني الأمر أي شيء، حتى وإن كلفني حريتي التي كنت على استعداد أن أضحي بحياتي من أجلها، لكنني على استعداد أن أقامر بحريتي في سبيل لقائي بهم (أمي وأبي وأخوتي، أهلي وأصدقائي) الذين أدركت أن الحياة بدونهم تعادل الموت.

ثم تذكرت صورتهم ومعاناتهم في زياراتهم لي في محبسي وكم الأسى والحسرة والقهر الذي كنت أراه مكتومًا في أعينهم ووجوههم وذلك السلك الحديدي القميء الذي كان يقف بكل دناءة حاجزًا بيننا شاهدًا على ألمنا.

كل ذلك دفعني للاحتفظ بمرارة المنفى داخلي في صمت، متظاهرًا أمامهم بالانطلاق والسعادة في سجن غربتي.. ولكن ما لم أخبرهم به أبدًا.. أن الحنين مازال يطاردني.

المساهمون