سليمان الدقي.. حكيم الثورة

06 سبتمبر 2015
الطبيب التونسي سليمان الدقي(العربي الجديد)
+ الخط -
إلى جانب وظيفته كطبيب أعصاب بمستشفى هنري مندور، شغل الدكتور سليمان الدقي مناصب كثيرة، منها منصب رئيس جمعية النداء العربي الفرنسي ورئيس تجمع اللجان والروابط العربية في فرنسا، إضافة إلى رئاسة جمعية "معرفة الإسلام" التي تشرف على البرنامج التلفزيوني الخاص بالدين الإسلامي (بعدها ستتم إزاحته ويتم الاستعانة بمغاربيين آخرين يسهل على الإدارة الفرنسية ترويضهم)، وجمعية البحث العلمي والطبي في فرنسا.
والذي يرى الدكتور سلميان الدقي، هذه الأيام، على كرسيّ متحرك في مقهى من مقاهي باريس الثلاثة عشر وابتسامته الوديعة والبريئة التي لا تفارقه، لا يمكن أن يتخيل حياة هذا الرجل، الذي ولد في يناير/ كانون الثاني 1937، الصاخبة والغنية والتي شهدت نشاطاً وحيوية لم تتوقف حتى أقعده المرض، قبل شهور، عن الحركة، ومع ذلك فهو يستقبل من يشاء من زواره وينصحهم حين يتطلَّبُ الأمر ذلك.
شاءت الأقدار لهذا الطالب الذي تخرَّج من الزيتونة أن يسافر إلى موسكو لدراسة الطب فيتخرج منها مختصّا في أمراض الأعصاب. ولأنه كان واعٍيا بأن الواجب يفرض عليه أن يمارس الطب في بلده، إلا أن الزعيم التونسي بورقيبة بدأ انحرافه الديكتاتوري، فهرب سليمان الدقي إلى باريس ليتبعه حكم قضائي بسجنه غيابيا ثماني سنين.
يقول لنا الدقي: "بموازاة مع وظيفتي الطبية، اشتغلت في المجال السياسي والنضالي، فقد
نشرت مقالات في صحيفة "الشعب" التونسية، كما انخرطت مع مناضلين عرب في فرنسا بالتعريف بالقضايا العربية ودعمها. ومثلما ساندت الثورة الجزائرية أثناء اندلاعها حين كنت طالبا، في تونس وموسكو، ساندت الثورة الفلسطينية منذ بداياتها".
وتشهد على حيوية الدقي الجمعيات الكثيرة التي شارك في تأسيسها، وترأسها، ومن بينها: "الحق العربي"، "معرفة الإسلام"، "النداء العربي الفرنسي". يقول: "كنا مهتمين بالشؤون العربية، وكنا نساند كل الدول العربية أثناء صدامها مع الغرب".
"القضية الفلسطينية هي قضية عربية ومركزية، بامتياز"، كما يقول. يتحدث الدكتور الدقي ببعض الزهو عن رسائل وصلته من قياديين عرب وخاصة رسالة من قبل الراحل ياسر عرفات يُثمّن فيها مواقفه المبدئية والعروبية.
الدفاع عن القضايا العربية والدفاع عن المهاجرين وأبنائهم، لدى الدكتور الدقي، متلازمان وضروريان. لأنه "لا يريد أن ينسى العرب ولا الأجيال المنحدرة من الهجرات أصولهم العربية وامتداداتهم وهمومهم العربية".
ماذا عن أجيال الهجرة؟ يتأسف الدقي من نقص منسوب النضال لديها، مقارنة مع الفترة التي كانت تنشط فيها جمعية "الحق العربي" وجمعية "الصداقة العربية الفرنسية" و"النداء العربي الفرنسي". وينصح الدقي المنحدرين من أجيال المهاجرين بـ"الحصول على الجنسية الفرنسية وبالانخراط في العمل السياسي، لأن قدَرَهُم هو أن يعيشوا في الغرب وأن يدافعوا عن كل قضاياهم بما فيها القضايا العربية".
زار الدقي بغداد أثناء الحصار من أجل إبراز دعمه لصمود الشعب العراقي. كما أنه زار، بعد الغزو الأميركي سنة 2003، بلدانا كثيرة كالهند والبرازيل وكوبا لتلمّس معاناة الشعب العراقي ضحية الغزو الأميركي والغربي، ومن أجل المطالبة بمحاكمة بوش وبلير.
ويندُرُ أن تجد همّاً عربيا وليس وراءه هذا الرجل. فالعرب عند الدقي قضية واحدة. هو عروبي بامتياز. ولهذا لم يتردد في الدفاع عن الشعوب العربية مهما كانت طبيعة أنظمتها. ويقول لنا: "إنه يمقُتُ كلَّ عربي يتآمَر مع الغرب ضد بلده". ولم يكن تضامُنُ الدقي مع العراق لفظيا فقط، بل إنه ساهم، سنة 2008، في كتاب جماعي عن العراق: "المقاومة في العراق لها كلمتُها"، وفعل من قبل (2005)، الشيء ذاته عن السودان في كتاب جماعي: "السودان: من أجل سلام حقيقي في دارفور".
ومنذ أن أنهى دراساته في موسكو سنة 1967 وجاء إلى باريس سنة 1968، وهو على اتصال بكل الشخصيات العربية الفاعلة في فرنسا أو المنفية فيها. صادَقَ أحمد بن صالح والفقيه البصري واليازغي ثم بن بله، وآخرين. كما كان له أصدقاء فرنسيون وازنون، من بينهم الطبيب الشهير برنار دوبريه (اليميني ابن رئيس الوزراء ميشيل دوبريه اليميني العنصري). يحكي لنا الدقّي قصة مع برنار دوبريه: "قال لي الطبيب برنار دوبريه، ذات يوم، إنه يكره الجزائريين، فسألته عن السبب، فقال لأن طفلا جزائريا في عمر 16 سنة بصق على وجه زوجتي. فقلت له إن الجزائر لا تعرف لا أب ولا أمّ هذا الطفل، لأنه فرنسي".
وأين المهاجرون في حياة الرجل؟ "إنهم في صميم حياتي واهتماماتي"، يقول لنا الدقّي. وهو لا
يبالغ. فقد كانت عيادته تعرف زيارات لا تتوقف لمهاجرين عرب فقراء يريدون وصفات طبية مجانية. ولم تكن الزيارات تحترم وقتا محددا. ومع ذلك كان هذا الرجل، الذي أطلق عليه هؤلاء المهاجرون وصف "حكيم الثورة"، مستعدا في كل لحظة لتقديم المساعدة وتوجيه النصح لمن يحتاج.
"هل أنت مثقف عضوي، يا سليمان؟" ربما. ولكن الطبيب لديه مسؤولية كبرى في علاج كل المرضى.
ولأن الحق ما شهدت به الأعداء، كما يُقالُ. فقد ورد ذكره في كتاب: "باريس، عاصمة عربية" لنيكولا بُو، الذي صدر سنة 1995 (وهو أيضا صاحب كتاب: "الاستثناء التونسي" دار النشر سُويْ/2014)، وهو تحقيق يرصُد فيه الصحفي الفرنسي اللوبيات المفتتنة بالبترو- دولار ومن يستبد بهم الحنين إلى القومية العربية، ومن بين هؤلاء الوجوه العربية في العاصمة الفرنسية، المالكين الجدد الشرق-أوسطيين في جادة فوش الباريسية ودهاليز باريس حيث تنسج صداقات إسلاموية... أي مزيحٌ من رجال أعمال وسياسيين منفيين وأصوليين... ويقول لنا الدقي: "لقد كنتُ الوحيدَ الذي ذكره المؤلف ولم يشتمه". فقد تحدث نيكولا بُو Nicolas Beau عن حضور الدكتور سليمان الدقّي في كل النضالات التي عرفتها باريس، والتي تهمّ العالم العربي.
نسأل الدكتور الدقي عن "الربيع التونسي" ومآله، فيُجيب في حزن عميق: "‘إنه ربيع ناقصٌ.. انظُرْ إلى ما يحدُثُ في ليبيا ومصر وسورية واليمن...".
دلالات
المساهمون