هل دُق المسمار الأخير بنعش التعايش بين العرب والفرنسيين؟

01 فبراير 2015
تأهب أمني على محطات المترو في باريس (فرانس برس)
+ الخط -

إذا كان الفرنسيون يستقون معلوماتهم عن الإسلام من وسائل الإعلام، فما الذي يمكن لهم أن يقرأوه في اعتداءات شارلي إيبدو، إذا سمعوا إيريك زمور، وهو يؤكد لهم أنه لا فرق، قطعاً، بين الإسلام والإسلاموية، أو فيليب تيسون وهو يقول إن المسلمين يجلبون معهم الفوضى أنّى حلّوا، أو المفكر ميشيل أونفراي وهو يتأسف لانقراض روح الاستشهاد لدى المسيحيين ويطالب بقراءة أخرى للقرآن الكريم بعيداً عن الآية الكريمة "لا إكراه في الدين"، أو نجم القناة الرسمية الثانية، دافيد بوجداس، وهو يتحدث عن "رجل مسلم متزوج من فرنسية"، وكأنه لا وجود لفرنسيين مسلمين؟

في خطاب تُشتمّ منه روح المزايدات الحزبية، قال ساركوزي إن فرنسا توجد "في حرب، وحضارتنا مهددة. وأخشى أن يظل التهديد خلال فترة طويلة. التهديد يوجد على أعلى مستوى". وخاطَبَ مسلمي فرنسا، قائلاً: "ما الذي يستطيع أن يفعله الإسلامُ من أجل الجمهورية؟". وتأتي هذه الاعتداءات في وقت حقق فيه اليمين المتطرف الفرنسي مستويات عالية من الشعبية في فرنسا، وأصبح أكبر قوة سياسية في فرنسا، كما أنه يدير أكثر من عشر بلديات فرنسية.


11 سبتمبر فرنسي
التحديات كبيرة، خصوصاً أن اعتداء "شارلي إيبدو" قُرئ في فرنسا على أنه 11 سبتمبر الفرنسي، لأن الفرنسيين، كما الأميركيين، لم يكونوا يتصورن أن يُضرَبوا في عقر دارهم، ولكن مُسلمي فرنسا والغرب واعون بما يُنتَظَر منهم، ولن يكون أكثر مما يُطلب من غيرهم. لأنه لا يمكن في دولة ديمقراطية تحترم حقوق المُواطَنة أن يُحاسَب شخصٌ أو جماعة أشخاصٍ على جُرم ارتكبه شخص آخر إلا إذا كانوا ضالعين معه. وهذا هو نظام دفاع المسلمين عن أنفسهم، فلا علاقة لهم بتصرفات وأفعال أفراد حتى وإن كانوا يصبغون الإسلام على هذه الأفعال. وهذه البراءة تستدعي موقفاً آخر، طالما ردَّدَهُ مسلمو فرنسا في كل امتحان قاس، وهو رفض التبرير (لماذا يُطلَب من المسلم أن يبرهن على وطنيته وولائه لفرنسا أكثر من غيره؟ ولماذا يريدون أن تستمر عقلية الطائفة والقطيع، بين المسلمين؟ ألا يمكن لمواطن فرنسي مسلم أن يُعبّر عن موقفه، بِحريّة، وأن يخالف آخرين من نفس ديانته؟ أليس هذا هو عقل المُواطَنة الحقيقية، ما دام أن المُواطن، أياً يكن دينه وإثنيته، مُحاسَبٌ أمام القانون وليس أمام الطائفة أو الجماعة!).

سرعة الإدانة
لا يمكن لأحد أن يُقدّر، بشكل دقيق ونهائي، حجمَ الآثار السلبية التي ستدفع ثمنَهَا الجالية الإسلامية في فرنسا خصوصاً، والغرب عموماً، من جرّاء ما وقع لصحيفة شارلي إيبدو. وإذا كان الأميركيون الذين جربوا تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وأحدثوا بعدها ترسانة من القوانين سمّوها "باتريوت آكت"، تسببت في كثير من التجاوزات والانتهاكات في ميدان حقوق الإنسان وفتحت المجال للتعذيب وغوانتانامو، فإن الفرنسيين ليسوا بعيدين عن التفكير في ذلك، حتى وإن كان القادة السياسيون لا يُحبّذون "استيراد" المصطلح. وليس أكثر دلالة على الأمر من الجدل العقيم الذي أصبح على الأَلْسُن، ما بين الظروف "الاستثنائية" وظروف "الاستثناء"، و"تحرّر" القول، فيما يخص الإسلام والجاليات الإسلامية في الغرب (الصحافي فيليب تيسون يتحدّث عن الإسلام باعتباره يجلب الفوضى في كل مكان، والمفكر ميشيل أونفراي ينصح الفرنسيين بعدم الاستكانة إلى الآية القرآنية الكريمة: "لا إكراه في الدين"، ويطالبهم بقراءة القرآن كله والسيرة النبوية لاكتشاف العنف، وهما مثالان عن مناخ عام من انغلاق وانفعال الدوكسا الثقافية والإعلامية الفرنسية).

حساسية أمنية
يتذكر الجميع قضية مقتل الرهينة الفرنسي في الجزائر والنقاش الذي تلا الأمر حول مسألة تجريد الفرنسيين، المتهمين بالإرهاب والحاملين لجنسيتين، من الجنسية الفرنسية، وقد تحدَّثَ عن ذلك مُلحق "جاليات" (العدد الأول). وقد عاد الأمر بقوة، مع قضية شارلي إيبدو، حيث أصبح المعارضون، الآن، لهذا الإجراء أقلية، وحتى المجلس الدستوري، ضامن الحريات، والسلطة التي يمكنها كبح كل تشدّد حكومي، باتت تُرحّب بالتشدد الحكومي وتمنحه قوة القانون الأسمى.

وذهب الحماس الحكومي إلى أبعد حد، مع السياسة الأمنية المتشددة لرئيس الحكومة مانويل فالس، الذي بدأ الفرنسيون ينظرون إليه، مُجدَّداً، على أنه أفضل من نيكولا ساركوزي في المسألة الأمنية، والذي رأى شعبيته ترتفع بنسبة 18 في المائة. ومن خلال قراءة الإجراءات والتدابير المتخذة والتي سيتم تبنّيها من قِبَل البرلمان يُلاحَظُ أن الانفعال الذي جرى بعد شارلي إيبدو جعل كل الردود على الإرهاب ممكنة. خصوصاً ما يتعلق بخلق جذاذات تتضمن قوائم الإرهابيين، على الرغم من مَخاطر الخلط بين إرهابيين وأبرياء، والإقدام على تجاوزات (تتساءل المنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان إن كان سيُدرجُ في هذه القائمة أشخاصٌ مخمورون يتفوهون بكلمات مستفزة، مثلاً؟!).

والذي يقيم في فرنسا خصوصاً، والغرب عموماً، ينظر إلى الأشياء بنظرة تختلف عن الذي يَنظُرُ إليها من الخارج. ولهذا السبب ينذهل الكثيرون من ردود أفراد الجالية وممثليها (لن تَجد مسؤولاً كبيراً أو صغيراً لم يُدْلِ بتصريح أو بيان)، سياسيين أو دينيين أو ثقافيين، ومن القلق الذي تشعر به، ويَعيب عليها الكثيرون المواقف "الرخوة" التي تقدم عليها. فجأة، وجد مسلمو فرنسا (مسلمو الغرب جميعاً) أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ موقف سريع، سرعة الحدث وتداعياته الإعلامية والسياسية والاجتماعية.

حبس أنفاس
لقد حَبَس مسلمو فرنسا خلال يومين أنفاسهم، قلقاً وخوفاً، من كل ما يمكن أن يستغل ويستثمر، خصوصاً أن الخصومَ كُثُر والتحديات جسامٌ، وتمنوا لو أن الأمرَ يتوقف فوراً. يومان لم تشهد فرنسا الرسمية، مثلهما، ربما، منذ التفجير الإرهابي الذي استهدف قطاراً 18 يونيو/حزيران 1961، وأدّى إلى مقتل أكثر من عشرين شخصاً، وكان حينها صراعاً فرنسياً - فرنسياً. وأمّا مسلمو فرنسا فيتحدثون عن ذكرى أخرى أكثر إيلاماً، وتعود إلى 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، إبان الثورة الجزائرية الخالدة، حين ارتكبت شرطة باريس مجزرة بحق الجزائريين، راح ضحيتها العشرات من القتلى والغرقى في نهر السّين والمئات من المعتقلين.

لا شك أن مسلمي فرنسا متفقون على التعلّق بفرنسا وقوانين الجمهورية ومبادئها وبالعيش المشترك، وهم يثبتونها ليل نهار، وكلما تطلَّبَ الأمرُ ذلك.
ومن هنا فلا شيء يمكنه أن يثير الاستغراب من قراءة ردود الجالية وممثليها.

لقد أسرع إمام مسجد باريس الكبير، دليل بوبكور، رغم مرضه الظاهر، إلى مقر الصحيفة الإسلاموفوبية "شارلي إيبدو" ليقدّم "واجب" العزاء، وهو الذي كان خصماً لها قبل سنوات، بسبب نشر ذات الصحيفة رسوما مسيئة للنبي الأعظم، وهناك التقى بإمام آخر، "حسن شلغومي" تريده السلطات الفرنسية، رغم أنف مسلمي فرنسا، مُحاوراً مفضَّلاً ومُمثِّلاً لمسلمي فرنسا، وهو الذي لا يتقن اللغة الفرنسية، إضافة إلى أنه حديثُ عهدٍ بفرنسا. كما أن كافة المساجد في فرنسا عبّرت عن استغرابها لما جرى وإدانتها للاعتداء.

كما أن الوسط الثقافي والفكري أدلى بدلوه في الميدان، ورأينا الأغلبية تعبّر عن صدمتها الشديدة وإدانتها للاعتداء غير المبرر. قرأنا نصوصاً وبيانات لمفكرين وكتّاب، لعل من بينهم الطاهر بن جلون، الذي كرر ثوابت حرية التعبير واحترام القوانين، لكنه شدّد على إدانة المصطادين في الماء العَكر، من أشباه إيريك زمّور والعنصريين الذين يريدون الانكفاء وإنشاء أسوار تفرق بين الطوائف المكونة لفرنسا، بلد الاختلاف، بامتياز.

محنة الإجماع
الساسة المنحدرون من الهجرة لم يكن موقفهم مغايراً، من حيث التنديد بما جرى، وتشديدهم على فرنسا التي تجمَعُ وتُوحّد. وفي هذا لم يختلف الساسة المنضوون في أحزاب تقليدية (يمينية ويسارية) أو مسؤولو أحزاب مستقلة كحزب أهالي الجمهورية، في مواقفهم المتعاطفة مع الشعب الفرنسي، وإن تميز حزب أهالي الجمهورية بتشديده على أن محاربة الإسلاموفوبيا باتت، الآن، أكثر استعجالاً وراهنية.

وهو موقفٌ يؤيده بيانٌ جديد للمَرْصَد الوطني لمكافحة الإسلاموفوبيا في فرنسا، توصلت به "العربي الجديد"، يتحدث عن ازدياد مقلق في الأعمال والاعتداءات ضد مسلمي فرنسا وأماكن عبادتهم، بعد التفجيرات الإرهابية الأخيرة في باريس. وتحدّث المَرصَد عن توثيقه لما يقدر بـ 128 اعتداء ضد المسلمين منذ أسبوعين، أي ما يعادل اعتداءات سنة 2014 بأكملها. ولا يتعلق الأمر، في الحقيقة، إلا بالشكاوى التي تتلقاها الشرطة والدرك، في حين أن الكثيرين يفضلون عدم الإبلاغ خوفاً من التبعات المترتبة عن ذلك.

المساهمون