عباس كيارستمي: مغادرةٌ عبر حقول الزيتون

06 يوليو 2016
(كيارستمي يلتقط صوراً لمعرضه/ أنقرة، 2016، تصوير: بينر غورون)
+ الخط -

منذ وقتٍ قليل، بدأ يتردّد في الأوساط السينمائية الدولية، أن الحالة الصحّية للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، "ليست على ما يُرام". إصابته بمرض سرطاني تقول بنهاية حتمية، فإذا بالنهاية تلك تحدث مساء الإثنين، 4 تموز/ يوليو 2016.

هذا يعني أن ركيزة أساسية في صناعة السينما الإيرانية والعالمية لن تكون حاضرةً بعد اليوم، ولن تُغني المشهد بأفلام ونقاشات وحراك. كما أن بعض الفن البصري، كالرسم والتصوير الفوتوغرافي، سيغيب عنه، إذْ تتوقف الكاميرا عن التقاط ما تراه عين السينمائيّ دون غيرها، وتبقى ريشة اللوحة وحيدةً أمام بياضٍ لن يتلطّخ بأهواء الفنان، ولا بأمزجته ورؤاه.

ذلك أن عباس كيارستمي (مواليد طهران، 22 حزيران/ يونيو 1940) يختار الفنون الجميلة مدخلاً إلى عالم يجمع الصناعة بالإبداع، فيحصل، وهو في الثامنة عشرة من عمره، على منحة لدراسة الرسم، ويعمل في مجال الإعلانات، ويُحقّق عشرات الأشرطة الدعائية لحساب التلفزيون الإيراني، قبل أن يعمل، منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، في تصميم مقدّمات الأفلام، من دون أن يتخلّى عن تزيين كتب الأطفال برسوماته.

رغم هذا كلّه، تجذبه السينما، خصوصاً مع ولادة "الموجة الجديدة الإيرانية"، المتمثّلة بفيلم "البقرة" (1969) لداريوش مهرجويي (1939)، الذي يؤسّس خطاباً جمالياً ودرامياً تجديدياً، ويضع الغرائبيّ في عمق المسار الواقعي للحياة اليومية. في العام نفسه، يتولّى كيارستمي، بالتعاون مع إبراهيم فروزش (1939)، تأسيس قسم خاصّ بالإخراج، في "معهد التنمية الفكرية للأطفال والناشئة"، الذي يهدف، أساساً، إلى نشر كتب للأطفال.

"يسعى عباس كيارستمي إلى إعادة قراءة الواقع (...)، كي يعيد للعالم معناه، ويجعله موضع ثقة". لعلّ ما يكتبه حميد دباشي، أستاذ الدراسات الإيرانية في "جامعة كولومبيا"، يختزل العالم السينمائي للمخرج. فالتأمّل في اللوحات التي يصنعها في كل فيلمٍ على حدة، دافعٌ إلى إعادة اكتشاف العالم عبر عيون شخصيات، يطغى عليها الأطفال والمراهقون في بداياته على الأقلّ. والتوغّل في ثنايا الحبكات الدرامية، ومفاصلها وسياقاتها، يجعل المُشاهدة نوعاً من إعادة ابتكار مغزى جديد للعلاقة بالعالم، كما بالناس والاجتماع والحالات.

فمنذ نتاجه السينمائيّ الأول، وهو روائي قصير بعنوان "خبز وزقاق" (1970، 10 دقائق)، يكشف كيارستمي عن قدرات فنية تُحوِّل العاديّ إلى مرآة شفّافة وحادّة، تعكس بعض المخفيّ، هنا وهناك. تماماً كما في "استراحة" (1972، 11 دقيقة) و"الكورس" (1982، 17 دقيقة). يختار السينمائيّ "لغة الصمت" في فيلميه الأولين، ويتيح للكلام، في الفيلم الثالث، مساحة تنبض بحيوية الكاميرا الهادئة في مقاربة الحكايات، المنبثقة من سردٍ واقعي لتفاصيل يومية.

التوقّف عند الأفلام الثلاثة هذه، مردّه أنها تأسيس فعليّ للمشروع السينمائي لكيارستمي، إذ تتوضّح فيها حساسية الإبداع البصريّ في قدرة الصورة على القول. هذا انطباع يرافق المشاهد والناقد، معاً، في الرحلة المديدة، التي يخوضانها مع المخرج وأفلامه، خلال 42 عاماً، تنتهي بالفيلم الأخير "مثل عاشق" (2012)، المعقود على تعمّق هادئ في نمط علاقة تنشأ بين أستاذة جامعية متشدّدة في حماية التقاليد، وشابة مغوية لن تتردّد عن بيع جسدها لإكمال دراستها، وشاب غيور وعنيف.

عبر 42 عاماً، تتواصل أفلام كيارستمي، الداعية إلى ممارسة أجمل تلصّص يمكن للحياة أن تمنحه للفرد. والتلصّص، هنا، يكون جمالياً في دفعه المتلصِّص إلى أقصى الاختبار البصريّ، بهدوء منقِّب عن آثار مخفية، وبحنكة صائغٍ يُبدع في تنقية جواهره من كل شائبة. والتلصّص، أيضاً، دعوة إلى متعة العين، ورفاهية الروح في مشاهداتها ومساراتها، إنْ يكن النصّ السينمائيّ مبنياً على الصمت، أو مرتكزاً على الحوارات. وإذْ تبدو الحوارات إضافات درامية على النصّ، فإن الصمت يُشكِّل نواتها الأصلية، وفضاءاتها المفتوحة على احتمال البقاء داخل أسوار الحكايات.

يُعتبر "أين منزل صديقي؟" (1987) "الفيلم الأشهر" لكيارستمي، وهو العمل الذي أدخله إلى أوروبا عبر فرنسا، إذْ عُرض في "مهرجان القارات الثلاث في نانت". لكن المخرج كان ناشطاً جداً قبل ذاك الفيلم، خصوصاً في النتاج الروائيّ القصير، الذي يجمع بين عوالم الطفولة وبدايات المراهقة، بأحوال بيئة اجتماعية، وأنماط عيش وعلاقات.

ونشاطه لن يبقى محصوراً في الإخراج، إذ يعتاد الكتابة وتنفيذ المونتاج في غالبية أفلامه تلك، وأفلامه اللاحقة أيضاً. "لقطة قريبة" (1990) يكشف، من بين أمور عديدة، شغف الإيرانيين بالسينما، إذ يجعله المخرج مدخلاً سينمائياً جميلاً لمقاربة "هيام" الإيرانيين بالفن السابع، إلى حدود التماهي بمخرجيه أو شاشاته أو حكاياته.

أمّا "عبر حقول الزيتون" (1994)، فيُرافق مخرجاً يتفقّد ممثلي فيلمه السابق، "وتستمرّ الحياة" (1991)، بعد تعرّض بلدتهم إلى دمار كبير إثر وقوع زلزال فيها.

التداخل بين الحياة والسينما، في هذين الفيلمين، قوي للغاية، إلى درجة يكاد ينعدم معها الخط الفاصل بينهما. وانبهار شخصيات عديدة فيهما بالسينما، امتداد لمتانة العلاقة الإنسانية بين الإنسان الإيرانيّ والسينما. وهذا يظهر أيضاً في "شيرين" (2008) مثلاً، إذ يختبر السينمائيّ قدرة الممثلة (غالبية الشخصيات نسائية) على أداء يرتكز على تعابير الوجه فقط. فالنساء يشاهدن فيلماً يتابعه مشاهدو "شيرين" عبر وجوههن، وانفعالات الوجوه وملامحها وتعابيرها. عشق السينما يرتسم على وجوههنّ كلوحات تنعكس عليها أضواء الشاشة والحياة والحبّ.

كثيرة هي أفلام عباس كيارستمي، ومليئة بكمّ هائل من التعابير والتفاصيل التي تحتاج إلى أكثر من قراءة نقدية واحدة. وإعادة مشاهدتها دافعٌ إلى تنقيبٍ جديد في فضاءاتها المختلفة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمرة الأمس
يرصد كيارستمي معنى الموت في أكثر من فيلم؛ أبرزها كان في "طعم الكرز" (1977)، إذ يتتبع رجلاً يقود سيارته حتى حفرة ينوي الانتحار فيها، وفي طريقه يعرض المال على كثيرين مقابل مساعدته في الانتحار، سيُلقي نفسه بالسيارة في الحفرة، لكنه يخشى ألا يموت! بطله لم يكن بعيداً عن إحدى قصائده التي يقول فيها: اليوم هو ثمرة الأمس/ وغداً/ ثمرة اليوم/ والموت/ ثمرة الحياة/ الموت هو المثمر.

دلالات
المساهمون