الكتابة في خطر

05 ابريل 2017
("أشجار"، بول كلي، 1929)
+ الخط -

الكتابة قديمة لدرجة لا يمكن معها تحديد هوية مبتدِع هذا الفن لا فرداً ولا حتى جماعةً. وكل ما يقدّمه لنا التاريخ لا يكاد يخرج عن دراسات أركيولوجية تناولت تطوّر هذا الفن وطرائق حفظه على جدران الكهوف والمغاور وورق البردي وجلود الحيوانات والحجارة الصقيلة وسوى ذلك من نتف معلومات تتدرج نزولاً من التحقيق إلى التخمين كلما أوغلنا عميقاً في الزمن.

تطوّرت الكتابة لاحقاً على صعيد شكل اللغة ومضمون الموضوع، فلم تكتف برواية التاريخ صدقاً أو كذباً كما كانت تفعل بل ساهمت في صناعته والتأثير فيه، ولسنا بحاجة هنا للتذكير بالكتب والمؤلّفات النادرة التي عُدّت نقطة علامة أو شرارة ثورة.

يمكننا تشبيه الصراع الناشب اليوم بين الكلمة والصورة بنظيره الناشب بين اللوحة الفنية والكاميرا، فقد كان لاختراع الكاميرا الفوتوغرافية سنة 1826 على يد الفرنسي نيسيفور نييبس تأثير عظيم على الفن التشكيلي (المدرسة الواقعية بالذات) حين قدّمت الكاميرا لزبائنها صورة طبق الأصل عن واقع لا يُفلح الرسام الواقعي - مهما أجهد نفسه - في إنجاز مثلها.

ووجد الفنّانون المعاصرون أنفسهم في مأزق يتعلّق بمبرّر وجودهم نفسه، واستمرّ هذا القلق حتى ظهر على الساحة منقذون من أمثال سيزان وبيكاسو ومانيه ورينوار ودالي، وألقوا للغريق بحبال الانطباعية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية والسوريالية والوحشية ... إلخ، فجرى إنقاذ فن الرسم كما أنقذت الإبستمولوجيا بدورها الفلسفة من التلاشي، وكما أنقذت الرواية الحديثة فن الرواية من أنياب فن السينما بكل جاذبيته وطغيانه.

وكان لظهور الصورة الناطقة المتحرّكة "السينما" (أول فيلم في التاريخ أنتج عام 1888 بعنوان مشهد "حديقة راواندي"، وأول فيلم ناطق أنتجته شركة وارنر عام 1927 بعنوان "مغني الجاز") التأثير ذاته في معظم الأشكال السردية (القصة والرواية بشكل خاص) حين مكّنت القارئ الكسول من اختصار الزمن والجهد المبذولين في "ابتلاع الرواية "، إضافة إلى المؤثّرات الفنية الأخرى التي يفتقر إليها الكتاب كالأداء الحي المجسّد والموسيقى التصويرية.

يقف جندي الحرف عارياً اليوم في مواجهة جيوش الصورة المدجّجة في معركة تبدو غير متكافئة، خاصة وأن كلّ ما في العصر الحديث يحرض على نبذ القراءة والالتفات إلى الصورة ميلاً إلى الاقتصاد ما أمكن في إرهاق الدماغ والإسراف ما أمكن في إمتاع العينين.

ورغم أن الحرف قد استعان بمحارب واقف على الحياد هو الصوت فظهرت كاسيتات شعر بأصوات شعراء وقصص بأصوات قاصّين وكتب مقدّسة بألحان وترانيم رخيمة، فإن الصورة أثبتت أنها القرين الشرعي للصوت ولا يُمكن الفصل بينهما لصالح منتوج ساكن.

تشترك الكلمة والصورة في ممارسة الخداع، فالصورة كائن مسطّح ميت يوحي للعين بحضور الأبعاد والمسافات كما يوحي بالأحاسيس والانفعالات البشرية التي يعمل دماغ المتفرّج على استكمالها وتخمين مخبآتها على مبدأ إكمال الدائرة الناقصة، أو من خلال صورة حيّة متحرّكة داخل مكعب ضوئي ميت يكفي أن تقطع عنه التيار الكهربائي حتى يدخل في العدم.

أما الكلمة المكتوبة فمخادِعة ﻷنها قد لا توصل المعنى ذاته الذي تحمله ناهيك عن افتراق الخيالات التي ترسمها في دماغي الكاتب والقارئ، بينما يكمن خداع المنطوقة بتواطؤ حاسّة السمع في العملية.

وإذا كانت الصورة الواحدة تعادل ألف كلمة، فكم كلمة سيعادل الفيلم الذي يستغرق ساعتين بحساب أن الثانية الواحدة فيه تحرّك أربعا وعشرين صورة ثابتة حتى تُعطي المشاهد إيحاء الحركة الذي يظهر على الشاشة؟

وإلى أن ينتهي القارئ من استخراج هذا العدد، نختم بسؤال لا أحد يتمنّى أن تكون الإجابة عليه بنعم؛ هل الكتابة في خطر؟


* كاتب ومترجم سوري كردي

دلالات
المساهمون