حوار الصم

24 يونيو 2016
تمّام عزام/ سورية
+ الخط -

في قصته القصيرة التي تحمل هذا الاسم، يضع الكاتب السوري الراحل، جورج سالم، بطله ضمن مجموعة من "الأصدقاء"، حيث يكتشف أنه لا توجد بينه وبينهم أي صلة وجدانية أو فكرية أو حياتية.

بل إن كل واحد من المجموعة معنيّ بمشاريعه، وأخيلته التي لا تعني الآخرين. والحقيقة أن المشاركين في الجلسة لا يتحاورون، ومن الصعب أن نطلق على أحاديث عابرة، ومفككة اسم "حوار"؛ إذ إن الكاتب يشير إلى اللاحوار، أو يؤكد (وهذا هو الباب الخطير الذي يزجّنا جورج سالم فيه، بلمساته البسيطة، والناعمة، والخفية، في القصة القصيرة)، أن هذا هو "حوارنا" في حقيقة الأمر. أي أننا لا نتحاور البتة.

"وحين تطلّع حوله، لم يبصر شيئا. كانت الظلمة قاسية... فصاح: هل صرنا في العراء؟".
وقد تكون هذه القصة، بعنوانها التحذيري المبكّر، قد حاولت أن تظهر عزلة الإنسان، وغربته عن الواقع، غير أن من يعيد قراءة جورج سالم، سوف يكتشف أن هذا الكاتب الذي لم يحظ في حياته بقراءة عادلة، أو متفهمة، وضع في سرداب التعبير عن الألم الفردي وحده. غير أن التحوّلات السورية المتسارعة منذ ذلك التاريخ، (نشرت المجموعة عام 1973) تؤكد أنه، في قراءة أخرى، قد استطاع أن يتلمّس غياب حوارنا، وغلبة الأنانية والمصلحة الشخصية على علاقاتنا الإنسانية.

غير أن ما بدا في ذلك الحين انسداداً في أفق الحوار بين الناس، بات اليوم مبنياً على فكرة أخرى مهددة، ربما كان من الصعب على الكاتب آنئذ أن يراها، هي خنق الآخر في مساحة الانسداد ذاتها. لم يعد الحوار موجوداً، فيما تكاثر الصم. ومال كل منّا إلى وضع العراقيل في طريقه ذاتها كي يميت الحوار المقترح، أو المشتهى. وهي عراقيل تميل في معظمها إلى تصفية الآخر عبر الفعل المادي المباشر، كالقتل، والمجازر.

ويمكن أن نضيف إلى مليشيات القتل، مليشيا أخرى تستخدم الكلام، والكتابة. ويبدو هذا في سلسلة من المفردات التي باتت تشكّل محطات لغوية معتمدة لوصف الآخر المختلف، أو العدو. إذ يحقر العقل المليشياوي الآخر بعدم تسميته.

ويصف الموتورون أي شخص من الفريق الآخر بأنه "كائن" أو "مخلوق". من هو هذا الكائن الذي يفعل كذا؟ أو من هو هذا المخلوق؟ وكلا المفردتين تستخدمان بقصد الإلغاء. وتبدوان هنا كأنما استعيرتا من مواقف السحرة. وكل واحدة من هذه المفردات المعماة تعني تجريد الخصم، أو المختلف، أو العدو من الصفات الإنسانية. وتحويله إلى شبح، أو "لا أحد". وهي تعبّد الطريق أمام فكرة القتل، أو الإبادة. فإذا لم يكن الخصم مستوفياً للشروط المحددة للبقاء، فإن من السهل تصفيته، من دون أن نؤنب ضميرياً.

ليست المجزرة المباشرة، وأي مجزرة كلامية مساندة لها، فعلاً للقتل الوحشي، أو رد الفعل الثأري، وحسب، بل هي تدمير للمستقبل، أو تعطيل لأي إمكانية محتملة لقيام عدالة ما، تحاول أن تبني الحياة المشتركة، إذا ما أتيح لقيم التسامح أن تسود ذات يوم.

دلالات
المساهمون