هذا هو مطلع قصيدة ابن زيدون المعروفة حين اشتكى من فراق حبيبته ولّادة بنت المستكفي. يمكن لهذا الشطر وحده أن يكون عنواناً لما نحن فيه منذ أن عمّ وباء كورونا العالم بأسره، وأجبر معظم البشر على اختيار التنائي (أو التباعد) في معظم نواحي الحياة.
لم تعد طرائق التواصل المعتادة محبَّذة: لا المصافحة، ولا العناق، ولا تبويس اللحى والشوارب، صدقاً ومحبّة، أو نفاقاً ومداهنة. وقد يكون المداهنون أكبر الخاسرين، إذ لم يعد بوسعهم خلط الحابل بالنابل، وقد شهدتُ (وسمعت عن) مواقف يُرغَم فيه أولئك الذين اعتادوا أن يقولوا للآخرين بعد أن يخطئوا بحقّهم، أو بحقّ الحق نفسه: "هات لبوس شواربك" على التراجع، أو يُرفَض طلبهم علانيةً ودون مواربة. "كورونا" يقول له الآخر رافضاً أن يتعرّض للعدوى المحتمَلة من المرض، وقد يكون في رفضه جانب مضمر يرفض العدوى من وباء النفاق أيضاً.
كما أن أشكال اجتماعاتنا القديمة لم تعد صالحة، حيث كنّا نلتقي كل يوم، في جلسات حميمة نتبادل فيها الأفكار والمعلومات والأخبار الشخصية عن الأحداث اليومية التي تجري من حولنا بلا توقّف. واستُبدلت الحوارات المباشرة بخطاب أي وسيلة من الوسائل التي يستخدمها البشر.
هكذا في حين تهيمن نصيحة التباعد الاجتماعي على أجواء العلاقات الشخصية في العالم كلّه، تخطو وسائل التواصل الاجتماعي خطوتها الكبرى والأهمّ في تاريخها.
لا أحد يشتم تلك الوسائل اليوم، فقد حقّقت، في شهر ونصف، من المصداقية ومن الخدمات أكثر مما حقّقته طوال السنوات التي مضت منذ إنشاء أول وسيلة من بينها، ولا يهم التاريخ هنا البتّة، فكلمة "التواصل" التي كانت توصَف بأنها اسم لغير مسمّى، أضحت تفخر بأنها الكلمة الأكثر تطابقاً مع المسمّى. إذ ليس لنا في هذه الأيام غير وسائل التواصل في العالم الافتراضي، كي تعوّض لنا ما ينقصنا من التواصل الاجتماعي في العالم الواقعي. ففي وسعك وأنت في البيت أن ترى أصدقاءك، وأقرباءك، وأولادك وأحفادك، وأنت سعيد، أنهم مثلك محبوسون داخل مستطيل الهاتف النقّال الذي يجمعكم.
وباتت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تتدخّل في النزاعات الشخصية، ولم يعد أحد يعبأ بخصوصيته، وهي العبارة التي كانت تُشعرنا بالتهديد اليومي من سطو التكنولوجيا على حياتنا الخاصة. إذ يستطيع كل تطبيق أن ينتهك خصوصيتنا برضانا. كما باتت تتدخّل بالقدر نفسه في النزاعات الأهلية والطائفية والسياسية، ولا تستطيع أن ترفض هذا التدخّل، فالوباء الخطر، جعل منها الطريقة شبه الوحيدة في إيصال الرسائل، والردود، والأجوبة، وبها، أو بواسطتها يمكنك أن تقرأ، كما قرأت أنا، وسعدت، أنّ أحد المخطوفين قد أُعيد إلى أهله سالماً.
يحدث هذا كلّه دون أن تلمس بيديك أحداً من أحبابك أو أصحابك. هل سيصبح هذا تقليداً في حياتنا؟ كان ابن زيدون قد أكد في الشطر الثاني من بيته الشعري أنّ التجافي صار بديلاً لطيب اللقيا مع حبيبته. لنأمل إذا ألّا تؤدّي التقاليد الجديدة إلى جفاء مزمن يصعب علاجه.
* روائي من سورية