"رجيم معتوق": الذاكرة حين تُحرج الدولة الوطنية

18 يناير 2020
(من الندوة)
+ الخط -

لا تتعادل الأحداث حين تُصاغ ضمن المادة التاريخية، فبعضها يجري تكريسه كمحطات أساسية بحسب درجة الارتباط بسرديات السلطة ورؤيتها، فيما تبقى أحداث أخرى منكمشة، متناثرة طيّ الذاكرة الشخصية لمن تقاطعوا معها، دون أن ينفي ذلك حضورها الذي كثيراً ما يُحرج روايات السلطة والتاريخ الذي تقترحه.

في عمله "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق" (منشورات "دار ورقة"، ديسمبر 2019)، يبدو الكاتب التونسي عمّار الجماعي وقد ذهب رأساً نحو هذا الإحراج حيث فتح - من خلال سرد تجربة شخصية - صفحة شبه مغيّبة من التاريخ السياسي التونسي، مضيئاً مسألة التجنيد القسري للطلبة في ثمانينيات القرن الماضي. يمتدّ هذا الإحراج إلى الفضاء السياسي اليوم حيث يجعل من عمله - وهو يضيء بعضاً من خلفياته - إدانة للعجز عن إيجاد أرضيات مشتركة بين فرقاء السياسة والمجتمع، وهو توجّه أكّده الجماعي خلال لقاء أقيم لتقديم كتابه في مقر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس العاصمة، أمس الجمعة.

في كلمته أشار مهدي مبروك، مدير فرع "المركز العربي" في تونس، إلى أن ما كتبه عمّار الجماعي يتجاوز شخصه فالعمل أقرب إلى سيرة جيل برمّته، ذلك الجيل الذي مرّ من الجامعة التونسية في ثمانينيات القرن الماضي بصراعاتها السياسية والأيديولوجية، وفي مفترق انتقال السلطة من بورقيبة إلى بن علي، كما أشار مبروك انطلاقاً من معرفته الشخصية بالمؤلف إلى أنه صاحب خصوصية تتمثل في قدرته على ربط علاقات صداقة مع جميع مكوّنات الطيف السياسي، وهو ما يتيح له أريحية في هذا النوع من الكتابة-الشهادة لم تتوفّر لدى غيره.

من جهته، قدّم الباحث الأنثروبولوجي الأمين البوعزيزي قراءة في العمل منطلقاً من الفارق عند الكتابة ضمن أدب السجون والمحتشدات بين نصوص كُتبت داخل السجن، ونصوص كُتبت انطلاقاً من ذاكرة لاحقة، وهو حال كتاب عمّار الجماعي، فالنص لم يهرّب ولم يكن يوميات المحتشد، وإنما كُتب بعد ثلاثة عقود ضمن "ثورة استعادة الكلام" بحسب عبارة البوعزيزي، حيث يرى أن "المؤلف قد ردّ بالرواية على التصوّر الذي فرضته الدولة الوطنية للتاريخ في تونس"، طارحاً هنا مفهوم "استعمارية السلطة" الذي يدعمه بإشارة إدوارد سعيد حين لاحظ أن الإمبرليالية بدأت من الرواية قبل أن تتجسّد في التدخّل العسكري، فالراويات استباحت الآخر حتى إذا دكّه العسكريون لاحقاً بالمدافع فعلوا ذلك بضمير مرتاح.

على مستوى آخر من القراءة، يرى البوعزيزي أن المؤلف لم يقصر عمله على كتابة يوميات سياسية، بل جعل منه موسوعة صحراوية (يقع محتشد رجيم معقتوق في الصحراء)، فنقرأ عن النبات والأرض والقرى والحيوان، وخصوصاً الزواحف.

يشير البوعزيزي أيضاً إلى حضور البحث عن مشتركات للنخبة التونسية في نص عمّار الجماعي، وهو ما يبدو كإسقاط للحظة الكتابة على الذاكرة، لكن من جانب آخر يمكن أن نفهم ذلك انطلاقاً من معرفتنا بالواقع السياسي اليوم حيث أن بعض الأسماء قد نقلوا صراعات قرعة بوفليجة ومطروحة 1 ومطروحة 2 (أسماء يوردها العمل) إلى الحاضر، وكأن الأمر مجرّد تموقع جديد لنشطاء الأمس غير أن عقلية الأقصاء لا تزال حاضرة لديهم.

بشكل عام يرى البوعزيزي أن هذا النوع من الكتابة هو رد على مقولات الدولة الوطنية ووصايتها على التاريخ التونسي، فالتداوي الحقيقي من جراح التاريخ يكون بالاعتراف والكلام، وإلا تتحوّل الثورة إلى ثأر، ويتحوّل الضحايا إلى جلادين جدد.

في كلمته، أشار الجماعي إلى أن ما أثاره لكتابة هذا العمل أنه وجد في إحدى المجلات (2013) ملفاً حول مسألة الطلبة المجنّدين قسرياً، غير أنه - وهو الذي عاش التجربة - وجد أن من كتبوا عنها تناولوها برغبة في تصفية حساباتهم الأيديولوجية اليوم. يضيف: "من حسن حظي بأني أقف عند المشتركات بين الجميع منذ أيام الدراسة، وهو ما دفعني إلى محاولة إنصاف التجربة وسردها من زاويتي". يعقّب الجماعي مازحاً حول حياده حين يذكر أن المخبر المكلّف بمتابعته كان يجد حرجاً في تقاريره إذ يراه مرة في مقهى مع اليساريين، وأخرى في تجمّع بين الإسلاميين، وفي مناسبات أخرى كان يرافق القوميين في جلساتهم.

وحول تجربة النشر، يقول: "بدأتُ أكتب في صفحتي الفيسبوكية عن حكايتي في رجيم معتوق بنفس المنطق الذي كنت أنشر فيه من حين إلى آخر أغنية لأم كلثوم، ثم لاحظت مع تتابع الحلقات اهتمام عدد من القراء، فأخذتُ الأمر بجدية أكبر، ووضعتُ ميقاتاً لنشرها وبدأت تتابع الحلقات".

أدار النقاش أحمد الغيلوفي والذي عقّب على قراءة البوعزيزي وحديث المؤلف، وعدد من الشهادات والمداخلات التي تلتهما. يعتبر الغيلوفي أن "ما أتاه الجماعي هو تقدّم نحو كسر مركزية تنكر على الآخرين أن يتكلموا باسمهم. أصبح للهامشيّ لسان وشفتان، وله القدرة أن يفتك قوة الوصف وتسمية الأشياء، وخصوصاً القدرة على الكتابة".



المساهمون