"رحلة عبر بلاد فارس": بدافع الاستكشاف وأهداف أخرى

25 اغسطس 2018
(مخطوطة لإحدى بوابات تبريز، 1849، غيتي)
+ الخط -

لا يمكن النظر إلى رحلة الرحالة الإنكليزي إليوت كراوشاي وليامز، إلى بلاد فارس، والتي تحمل العنوان نفسه "رحلة عبر بلاد فارس" سنة 1903 إلا باعتبارها حلقة من ضمن حلقات كثيرة، ومحاولة محمومة من بين محاولات أخرى، جرت لكشف النقاب عن هذا العالم الغامض الذي تمثله الثقافة الفارسية.

فرحابة الجغرافيا، علاوة على نظام الحكم المعقد، ومناعة هذا الإقليم الشاسع على الإخضاع والترويض من طرق القوى الأجنبية التي كانت تترصد، وتراقب، جعل العالم الفارسي أشد إلغازا.

ومن هنا، تأتي الرحلات التي قام بها عدد من الرحالة الأوروبيين، بدافع الاستكشاف تارة، وبدوافع استخبارية أغلب الأحيان. كانت القوى الأجنبية، تبعث بعيونها إلى هناك، لنقل صورة حقيقة ونابضة عن هؤلاء البشر الذين يعيشون في زمن خارج الزمن الأوروبي، بأنماط حكم واقتصاد متوارثة لا يحيدون عنها.

لقد حاول كراوشاي، أن يعطي معنى فلسفيا لرحلته تلك، في محاولة للتغطية على أهدافها الحقيقية، ولكن لو سايرناه، لما استطاع إقناع القارئ برحلته. فرحلة تمتد كل تلك السنوات، ويتحرك صاحبها ضمن موكب من فرسان محليين وأجانب، ويقف على مصاعب يتخطاها بتدخلات أو برشى صريحة أو مقنّعة، كل ذلك لا يمكن تنفيذه، في هذه المساحة الشاسعة من الجغرافيا، بالكلمات الطيبة والجميلة، ولكن قوة المال والقدرة على شراء مواقع النفوذ لدى السلطات المحلية أو الحاكمة.

يقول في مقدمة رحلته متحدثا عن "ولعه" بالسفر لاكتشاف الآخر "إنَّ أي إنسان يولع بعالم الطبيعة والبشر يتملكه شوق مفعم بالقلق لدراسته – وقضاء جلّ وقته كمراقب لحركة الحياة الزاخرة، وأن يعيش ويرى ويتعلم ويعرف ويشعر فقط. وعندما يسافر يصبح مواطناً في هذا العالم يتمتع بحرية بحاره وغاباته وصحاريه الرملية وشوارعه المضطربة ويقضي حياته متأملاً مزاياه المتعددة سابراً أسراره التي لا حصر لها".

وهو يمضي قدما في "التفلسف" بصدد أهمية الارتحال وأثره على النفس وعلى الذات الفردية، يقول "إن هذا النهم للسفر فيه جاذبية لا تقاوم، ومع ذلك وفي معظم الحالات، ينطوي على هدف أناني. فالمسافر هو الوحيد الذي يعطي حياة السفر قيمتها الحقيقية إذا كان السفر هو الهدف الوحيد لديه. وكما يعشق الفنان عمله ويعتبر العالم المصدر الأغنى له فكذلك الشاعر والموسيقى والمؤلف والسياسي يشبعون رغباتهم منه ويقدمون خدمة للإنسانية. أما المسافر كثير الترحال فإن إشباع الرغبة لا جدوى منها سوى لشخص واحد فقط في هذا العالم المشغول أليس بوسعه إذن، أن يلحق بالموتى من أقرانه ليدع العالم يكتشف في ذاته شيئاً أفضل لمتابعته واكتشاف كنهه".

ولا يتورع كراوشاي عن تقديم النصائح لرحالة محتملين، قد يفكرون يوما في جوب الآفاق، ولعل صفته كرحالة متمرس، قطع آلاف الكيلومترات في أقاص مختلفة، يمنحه هذا الحق في إسداء النصح، يقول "فإذا ما سافر (الرحالة) بذهن متقد فبوسعه أن يحقق أمرين. يمكنه أن يطبِّق المعرفة التي يكتسبها لفائدة أبناء جلدته ويمكنه أن يعرض تجاربه وخبراته لإقناعهم.

ومن المؤكد، إذن أن يكون هناك، إحساس بالواجب تجاه المسافر وعليه أن يرده بكلمات أو أفعال إلى العالم لما قدمه له".


من الهند 
في سنة 1903، سينطلق كراوشاي من الهند، حيث كان يعمل في سلاح المدفعية البريطاني، وسيقر قراره، بدل أن يعود رأسا إلى إنكلترا، سلك طريق بري، مرورا ببلاد فارس وعبورا بروسيا، ثم العودة إلى مسقط الرأس، إنكلترا. لقد كان المخطط واضحا تماما في ذهنه، يقول "أمَّا بالنسبة لظروف رحلتي البحرية، فقد قمت بها عام 1903 بعد أن استقلت من مهمتي في سلاح المدفعية الملكي في الهند، ومن أجل إشباع رغبتي في اكتساب الخبرة والانصراف عن حياة الرتابة في رحلة البحر الطويلة والمملة قررت أن أعود لوطني عن طريق بلاد فارس وبحر قزوين وروسيا ومن ثم أتخذ أحد الطرق البرية إلى إنكلترا. وبناء على هذا القرار، تشاورت مع خدمي من الهنود ووجدت اثنين منهم – كيشا وكاليشا – على استعداد لمصاحبتي كما إن أفغانياً اسمه سيف الله شاه شاءت الصدف أن أتعرف عليه أثناء عمله كمستخدم حكومي انضمَّ إلى المجموعة المرافقة لي. تخيَّل بعد انتهاء الرحلة البحرية وهبوط المجموعة كلها على ساحل بلاد فارس حيث يرفع الستار عن المشهد الأول لرحلاتي المميزة".


بعض تفاصيل
يكتسب كراوشاي خبرة كبيرة، وهو يبسطها تحديدا في رحلته هاته، التي تأتي مليئة بالمعطيات والمعلومات، مع فهم واضح للتحديات المطروحة عليه، وللمهام الموكولة إليه باعتباره صاحب الرحلة وقائدها، وهو من يجب أن يقرر فيها، أولا وأخيرا، وفي مسارها، وتفاعلها مع المحيط الذي يعبره، سلبا أو إيجابا.

يقول مثلا "ومن أجل أن نقضي على رتابة مسيرنا، قمت في بعض الأحيان ببذل جهود لتدريب الحصان الصغير الذي كنت قد اشتريته بعد مساومة مرهقة من شيراز. لقد كلفني عشرة جنيهات إسترلينية، ومع إنني أرهقت بالمساومة حوله ولم أتمكن من فحصه والتأكد منه إلا أنه أثبت أنه حيوان جدير بالتقدير. قد تذكرت اليوم بأنني قد أطلقت النار بمسدسي على الغربان من على ظهره حيث حاول في البداية الجنوح بي، ولكنه عاد فاستلم لي طائعاً. إنَّ المسيرة الطويلة هي عبارة عن خليط من التأمل والعمل. فالساعات الطويلة من السفر تؤدي إلى الاستغراق في أحلام أو أفكار حالمة عميقة وطويلة بحيث ينجم عنها صدمة للعقل المستغرق فيها عند حدوث أي طارئ خارجي. فالأفكار السائدة حول ما خلفه الأخمينيون في المنطقة قد حطمت وقذفت من الأعالي نحو الوجود العدواني لفارسي متطفل أو لحيوان أو لطير غامض".


الآثار في كل مكان
لشد ما أثار انتباه كراوشاي، وهو يعبر من مدينة إلى أخرى، ومن مجال جغرافي فارسي إلى آخر جديد، هو هذا الكم الهائل من الآثار، في دلالة على عراقة هذه الحضارة، يقول "ويبدو أن الحفريات ستكشف دلائل من باطن الأرض عن وجود مدينة قديمة، مع أنّ المكان مهجور ومعزول في الوقت الراهن. وإلى الجنوب وعلى الطريق الذي تسلكه البغال، توجد بقايا بوابة كبيرة وهي آخر آثار الأخمينيين في المنطقة عدا عن بعض الكوى غير النافذة في الصخرة على مسافة قصيرة. وهكذا وبعد عبورنا المداخل، غادرنا مدينة بيرس بولس. حينئذ انتابنا شعور بأنا ننتقل من الماضي الحاضر عند مرورنا في المدخل الكائن تحت القنطرة، إنه وهج الماضي يشع أمامنا بكل زهوه ثم عدنا إلى تأمل بلد من الصحارى والقذارة والفساد السياسي والاقتصادي".


عرض زواج
سيتلقى كراوشاي عرض زواج من فتاة فارسية، ولقد فوجئ بها، برفقة صديقاتها تفعل ذلك، وتتقدم نحوه من دون حجاب. لقد بهره جمالها، يقول "وبينما كنت مستغرقاً في استنساخ هذه النقوش هبطت علي فجأة من سفح التلة ثلاث فتيات فارسيات لم يكنَّ يلبسن الحجاب، وأبدينَ اهتماماً صادقاً بما كنت أفعل.

لقد كنَّ من إحدى القبائل القاطنة قرب التلة الصخرية في خيام ليست بعيدة عنا وفي ظل فقدان الخجل الفارسي، اقتربن مني ودخلن في نقاش معي. سألتْ إحداهن عن آلة التصوير والأخرى سألتني عَمَّا كنت أفعل. لم يكن "سيف" الأمين قريباً مني لذا كان علي أن أُشبع رغبتهن بمعرفتي البدائية باللغة الفارسية".

ثم يضيف، ملتقطا مقطعا من الحياة اليومية في بلاد فارس "ذهبت اثنتان منهن لإحضار أطفالهن من المعسكر حتى أتمتع برؤيتهم وقد فعلت ذلك بكل مودة وروح ديمقراطية. كانت الفتاة الثالثة غير متزوجة، ومن أجل تلطيف الجو سألتني إن كنت متزوجاً أم لا. قلت لها بأني لست متزوجاً، الأمر الذي جعلها تبتسم ابتسامة حلوة ثم سألتني إن كنت أرغب الزواج منها. كان هذا العرض مفاجأة لي. بحيث لم أتمكن من خلال معرفتي الضئيلة بالفارسية أن أرد عليه، ولذا سارعت إلى تقديم ساعتي كي أدخل البهجة إلى كل من النساء والأطفال على حد سواء. فكرت بأنّ النساء كن أكثر إعجاباً بها من أطفالهن بحيث لم تكن لديهن رغبة في إعادتها لي، وبعد وداع حميم واستفسار منهن فيما إذا كنت سأعود ثانية أم لا، ركبت حصاني وانطلقت صوب أصفهان".


في بلاد فارس
يوجه كراوشاي لوما شديدا إلى الطبقة السياسية التي كانت سائدة في بلاد فارس، والتي كانت تحكم بمنطق الطغيان، حيث التفاوتات الطبقية مهولة، والفروقات مروعة بين منطقة وأخرى. لقد أرهبه هذا اللاتوازن، ففي حين توجد مناطق منسية تماما وخارج التاريخ، توجد مدينة مثل طهران، في كامل جمالها، حيث علامات الثراء الفاحش بادية على مبانيها الجديدة وأحيائها التي تسكنها طبقة من رجال الدولة الذين اغتنوا من عرق هذا الشعب.

وهذا ما دفعه إلى طرح سؤال إشكالي: ماذا تعني فارس بالنسبة لابن الوطن، هل هي مجال جغرافي أم انتماء أم تاريخ مضى إلى غير رجعة؟ يقول "وعلى العموم، ما هو التاريخ بالنسبة للفارسي اليوم؟ ماذا يمكن أن يكون، في الواقع، هل يدركه عدا عن كونه معيبا؟ إنه ليس تشريفاً لأية أمة أن يكون لها ماض مجيد ولا يكون لها حاضر جدير بالاحترام. فإذا كان على الفارسي أن يخرج من الجهل إلى المعرفة ومن اللامبالاة إلى الاهتمام بوثائقه الوطنية، فالمؤكد أنّ ذلك سيؤدي إلى تطوير وتقدّم بلده مرة أخرى ويرفعه إلى موقع متميز ومزدهر.

ففي الوقت الراهن، لا يعرف الناس ولا يبالون بتاريخهم وكل اهتمامهم يتمحور ليس حول وثائق الماضي، ولكن حول خرافيات الحاضر. ولذا فإنَّ "أم سليمان" لا تنسب إلى ضريح سايروس وأنّ فكرة الألوهية المهيمنة عليهم تعزى إلى قوة خارقة للطبيعة. ويزور الضريح كل الفتيات والسيدات الفارسيات اللائى فشلن في حبهن ويرغبن في مواصلة حياتهن السعيدة.

هؤلاء السيدات الخياليات والمصابات بمرض الحب يقدمن حلية صغيرة إلى الإله إذا ما حقق رغباتهن، وهؤلاء هن اللائى عَلَّقن القرابين على الحبل داخل الضريح. فالأهداف تتحقق قياساً على نوعية الهدايا أو عقيدة مقدم النذر، وإلا فإنها لا تساوي شيئاً ولا تحقق هدفاً. لقد كانت كلمات الملك البسيطة والمتباهية المنقوشة على الضريح ضرورية ومفيدة: "أنا سايروس ملك الملوك أرقد هنا".

وهو يواصل رحلته ستبهره الأماكن، يقول مثلا واصفا عبوره الطريق من شيراز إلى أصفهان "إن الطريق إلى الشمال يمتد من شيراز خلال ممر الله أكبر، وبالنسبة للمسافر من أصفهان فإن أول ما يشاهده من سهل شيراز الجميل يتم تشكيله عند البوابة الكبيرة، التي تعترض مدخل هذا الممر، ويصاب عابر السبيل بالذهول والدهشة لرؤيته ذلك المنظر الساحر بحيث يصرخ متعجبا "الله أكبر"، تنبعث لا إراديا من شفتيه، ولهذا سمي المكان بهذا الاسم".

لكننا رغم ذلك، نشعر أحيانا وكأننا أمام رحالة مبتدئ، لا الصورة التي حاول أن يرسمها لنفسه، وليس هو رجل المدفعية الجلد، الذي يشرف على المدافع الملكية، ومن ذلك مثلا انتقاده لطريقة الأكل على البسط الأرضية في فارس، يقول "إن عدم وجود منضدة أمر تافه، ومن الغريب أن تشعر بالاشمئزاز وأنت تتناول طعامك لأول مرة على الأرض، إلا إذا كان الأوروبي يميل إلى الاستغناء عن السكاكين وشوك الطعام بحيث يقذفها في الهواء".

دلالات
المساهمون